كان صرحا من خيال فهوى، يافؤادي، لاتسل أين ذلك اليوم العشرون من فبراير ذات سنة، وأين شباب العشرين الذين لم يعودوا شبابا. نتذكر بالفواصل والتفاصيل والنقط والتواريخ اللحظات الأولى، ذلك الهروب المتلصص نحو ساحة الحمام ذلك الأحد الخاص من نوعه، وتلك الأسئلة التي تبدو اليوم مضحكة، لكنها كانت في الحين والأوان مؤرقة وشاقة وملتبسة "شنو غادي يطرا اليوم؟"
نتذكر الشعارات كلها، ونتذكر البيك- نيك الديمقراطي وأيام الخروج لقول كل شيء واللاشيء أحيانا
نتذكر الركوب على الركوب، والركوب على الهوندا، والركوب على مطالب الناس، والركوب على الشعارات ونتذكر وجه الراكبين واحدا واحدة. لن ننساهم فهم قطعا تاريخ حديث لنا، أتيحت فرصة التعرف على أغلبهم قبل وأثناء وبعد العشرين وأتيحت أيضا فرصة التفرج على المسارات وهي تلعب لعبتها الغريبة القائمة على الانصياع للعبة الحياة لا أقل ولا أكثر.
الثوري الحالم الأكثر جرأة الذي يقول لك إنه سيغير شكل الدنيا يصبح فجأة قابلا للتطويع والتغيير، ويحلم فقط أن يغير قميصه كل يوم، وتصبح رتوق اليومي القاتلة أكثر أهمية بالنسبة له من رفع الشعار تلو الشعار، والتلويح بالشارة تلو الشارة، نصرا أو هزيمة لا يهم. المهم هو أن الغلبة تظل دوما وأبدا وباستمرار وإلى غاية آخر الأزمنة حكرا على هاته اللعينة المسماة الحياة.
لم تكن العشرون من فبراير سيئة بالكامل. ولم تكن ملائكية وجيدة بالكامل. كانت مثل عادات وتقاليد أهل المغرب: في البين - بين، تأخذ نصيبها من هذه الجهة وتأخذ النصيب الآخر من الجهة الأخرى وتقدم لنا الشعب/الفسيفساء الذي نعرفه والذي نعيش معه والذي نعيشه والذي هو…نحن
حتى تلك التقسيمات الجزافية والاعتباطية والعبيطة التي أراد مدمنو القنوات التلفزيونية المشرقية أن ينقلوها إلينا لم تنجح.
نحن لا نعرف كلمة بلطجية إلا في المسلسلات المصرية البايخة، لذلك لم يقتنع شعبنا بالعبارة، ولم يقتنع بالعياشة لأنه يعرف أن أشياء كثيرة يجب أن تعيش في هذا البلد لكي يموت الشعور بالخوف ولكي يموت الجهل ولكي يموت انعدام الأمان.
أيضا شعبنا لم يقتنع بأن الحالمين بالصراخ في ساحاته كل أحد، هم مناضلون نازلون من سماء الثورة يريدون له الخير فقط. كان دوما يتوجس ريبة ولا يزال من رافعي الشعارات، وهذه هي حسنة ألا تكون شعبا طارئا. ألا تكون محدثا، ألا تكون من الذين "عاد قطر بيهم السقف".
شعبنا خبر نضالات عديدة قبل السنوات بسنوات، وأسس منذ لحظة تخلصه من الحماية طريقته الخاصة للمطالبة بحقوقه كلها وفق تطور تاريخي هو وحده دون بقية شعوب الأرض يملك تاريخه، أسموه الاستثناء أو أسموه ماتشاؤون لكن هذا هو واقع الحال...
لذلك رأى مناضلين صادقين حقيقيين منذ الخمسينيات السابقة وحتى اليوم، ولذلك أيضا رأى معهم كاذبين ومنافقين وتجار شعارات وأناسا تزايد على الشعب لأجل بعض المكاسب الدنيوية التافهة. ولذلك هو شعب يصدق الناس بمقدار، ويصدق مايقال له بمقدار، ويضع دائما في حسبانه أن "اللي غفل طارت عينو"، وأنه سيوجد دائما أناس يعتقدون أنفسهم أذكياء أكثر من بقية خلق الله الآخرين لأجل قطف الثمار
لهذا السبب هذا الشعب بالتحديد، لا يضع البيض كله في سلة واحدة. يترك لعوادي الزمن، لتطورات الوقت، لصروف الدنيا أن تفرض عليه "المخطط باء"، (PLAN B) وأن تقترح عليه مختلف مخططات الإغاثة، ولذلك يستطيع السير على كل الميادين الملغمة دون خوف من الانفجار..
اليوم لا بأس من إعادة طرح السؤال تلو السؤال: من خرج في تلك الأيام، ومن بقي في المنازل يعد نقوذه التي استلها من الأبناك، ومن حذر شبابه من التفاعل مع مطالب الشارع، ومن قال لنا "باي باي آشيري باي باي"، ومن توعدنا بشرور كثيرة ومن هز رأسه وكتفيه دلالة اللامبالاة وقال "آودي شحال داز على هاد الراس وعلى هاد البلاد لذلك لا خوف عليها ولا هي تحزن"، ومن مثل دور المنخرط في الغيبوبة لا يدري شيئا لئلا يصدر عنه موقف إيجابي أو سلبي يحاسب عليه فيما بعد، ومن تفاعل مع الناس وقال بأن هناك أمورا جيدة وجب الاحتفاظ بها وهناك أمور سيئة وسلبية وجب التخلص منها، ومن آمن بالبلد حتى آخر رمق، ومن اهتز إيمانه الضعيف ولم يعد قادرا حتى على تكوين جملة مفيدة فأحراك أن يكون رأيا حول الموضوع، ومن ومن ومن؟
هي الأسئلة تترى وتتوالى وتتتابع كل مرة حل فيها هذا التاريخ المحدث الحديث الدال على عديد الأمور، الخارج بنا هنا في المغرب من عنق الزجاجة، الداخل بالعديدين منا في متاهات لم يستطيعوا التخلص منها إلى حدود اليوم، حتى وبعد أن مرت ثمان سنين كاملة
يحلو لي كل مرة حل فيها هذا التاريخ أن أعود إلى المكان ذاته، ذلك الذي نزلناه أول الأمر، أبحث عن الحمام الذي كان يطير في تلك الساحة البيضاوية الشهيرة. أرى الترامواي يجتازها اليوم بثبات وأرى الفرق الفولكلورية تغني غير بعيد عنها، فيما المغاربة، شعب البيضاء، أبناؤها الفقراء يلمحون النافورة الجديدة، وينتظرون الانتهاء من بناء المسرح الكبير. يغازل الشباب الصغيرات العابرات بغنج الوقت لكن "بحروشية الكازاويات" المعروفة، ويدلف الراغبون في السقوط في متاهات الإلهاء المقاهي والحانات المجاورة. يدخل موظفو المحكمة والولاية إلى أعمالهم والأشغال. يقطع العابر الراغب فقط في تزجية الوقت المكان جيئة وذهابا. يختطف شابان على دراجة نارية مهترئة هاتفا نقالا رخيصا من يد شابة صغيرة تصرخ بملء قوتها، وتعبر السيارات دفعة واحدة نحو المكان الآخر قاصدة مرس السلطان، أو متوجه إلى عبد المومن أو عائدة في الاتجاه الآخر نحو عين الذياب أو الجهة الثانية إلى مداخل المدينة القديمة.
تتثاءب الشمس راغبة في الغروب بعد يوم شاق من العمل، تلمع في أقصى الذاكرة لقطات عديدة عن يوم خاص من نوعه عاشه أناس يمتلكون من الخصوصية هم أيضا الشيء الكثير…
يقال لهم المغاربة وينسبون إلى هذا البلد المسمى المغرب، ويعرفون أنها سنة الله في خلقه وفي أرضه بالنسبة لهم: أن يظلوا على الخصوصية ذاتها إلى ختام كل الأيام.