إنّ الخدمة العسكرية واجبٌ وطنيٌ مقدّس، لا يُسْتَثْنى منه أحدٌ؛ بل إنّه دليلُ الانتماء للوطن، ودليل التّضحية والشّجاعة والإقدام؛ فالخدمة العسكرية لا تقلّ في شيء عن المشاركة في حرب استجابةً لنداء الوطن، ومَن شارك في معركة أو قضى خدمتَه العسكرية، تجد هذه الخدمة العسكرية مُثْبتةً في سجلّ حياتِه إلى جانب مهمّته، والشهادات العليا التي حصل عليها في المعاهد أو الجامعات، بل تجده يُعْرف بمشاركته في حرب، أو مروره بالخدمة العسكرية أكثر ممّا يُعْرف به من مهنة أو شهادة نالها، والمشاركة في حرب أو قضاء لخدمة عسكرية لا تختلف من حيث القيمة بيْن دُوَل ديموقراطية ودُول ديكتاتورية، لأنّ الوطنَ في أيّ نظام كان، يكتسي بُعْدًا رأسيًا وقيمةً تعلو على كافة القيم، ومَن يهِب حياته للوطن في حرب أو في خدمة عسكرية، يكون قد أعطى أعزّ ما يملك لهذا الوطن، وينبغي أن تنحني أمامَه إجلالاً له على صنيعه.. والجيش هو مدرسة الجميع دون استثناء، وهي المدرسة التي تفرّق حتمًا بيْن المواطن الصّادق، والمواطن المنافق؛ بيْن الإنسان صاحب المبادئ، والإنسان التافه الجبان؛ والجبناء هم فئرانٌ قَذِرة، لا تقوى على مقاومة الجُبْن المتحكِّم فيها؛ فالذين يؤدّون الخدمةَ العسكرية، هم شجعان، وهم الذين يشكّلون (الجيش الاحتياطي) في كافة الدّول؛ فالكيانُ الصهيوني هزم العرب بالجيش الاحتياطي، وليس بالجيش النظامي وحده، كما قد يعتقد الجهلاء والسُّذَّجُ.. والمغاربة الآن في الشارع يتساءلون: لماذا لم نَرَ أو لم نسمعْ وزيرًا، أو مسؤولاً، أو زعيمَ حزْب، شارك أبناؤُهم ذات يوم في الدفاع عن حوزة الوطن، أو قضوا خدمتَهم العسكرية؟ فهؤلاء المنافقون والكذّابون، يجعلون أبناءهم يلجون المناصبَ العليا أو يُصْبِحون زعماءَ أحزاب خلَفًا لآبائهم، أو يَحشرون أنوفهم في أمور سياسية لا يفهمون فيها، أو يشكّلون جمعيات ذات أجندة أجنبية، تحطّم الدّين، والقيم، وتشيع الفاحشةَ، وتنسف الرّوح الوطنيةَ الحقّة؛ فالخدمة العسكرية يجب ألا تستثنيَ أبناءَ هؤلاء، ويجب أن يكونوا في المقدّمة، لو كانوا وطنيين حقّا وصدقًا..
قد يسألني القارِئُ إنْ كانت لديّ دلائلُ على أُناس مسؤولين في أنظمة ديموقراطية أو ديكتاتورية شاركَ أبناؤُهم في الجيش، ومنهم من استُشْهِد، ومنهم من جُرِح، ومنهم من شرَّف أسرتَه ووطنَه؟ كثيرة هي الشخصيات التي صارت تاريخيةً لوطنيتِها وتضحيتِها وشجاعتِها.. فهذا (نيتشه) الفيلسوف الموسوعي ينضمّ إلى الجيش من أجل وطنه، رغم حالته الصحية.. وهذا الكاتب الكبير (أبُّولنير) يموت في ساحة الوغى لكن بسبب (الأنفلونزا الإسبانية) في نهاية الحرب الأولى.. وهذا الكاتب الشهير (جان جيونو) يشارك في حرب الخنادق في الحرب العالمية الأولى.. وهذا الكاتب العملاق (مالْرو) يقُود المقاومة في وسط (فرنسا) في الحرب الثانية.. وهذا (سارتر) زعيم الفلسفة الوجودية ينضمّ للمقاومة، فتسجُنه النازية في أحد المعتقلات، لكنّه يفرّ، ويواصل النضال.. وهذا الأديب [بيرْنانوس] يُظهرُ بسالةً في محاربة النازية.. وهذا أخ الجنيرال (ديغول) يقع أسيرًا بيد الألمان، فيفكُّه من الأسر (الأب بيير) بعملية قيصرية.. وهذا الرئيس الأمريكي (روزفلت) شارك ابنُه على رأس فيلقٍ خلال عملية الإنزال في (النورماندي) سنة (1944).. وهذا الرئيس الأمريكي (جون كيندي) كان قائدَ دورية بحرية في جزر (سُلَيْمان) وسنة (1943) صدمتْ قاربه سفينةٌ حربية يابانية، فنَجا بِصُحْبة زميلٍ له، فوجدهما سكان الجزيرة، وعالجوهما.. وهذا أخوه (كيندي جونيور) كان طيّارًا، ولـمّا كان ذاهبًا سنة (1944)، لتدمير المدفع العملاق النازي في شمال (فرنسا)، انفجرت طائرتُه في الجو بسبب خطإ تقني في توقيت القنبلة..
وماذا عن الديكتاتوريين، عندما يتعلّق الأمرُ بالوطن؟ لا فرق بين ديموقراطي وديكتاتور.. في سنة (1943) تعرف النازيون في المعتقل على ابن (ستالين)؛ فأرادوا مبادلتَه بالجنيرال (باولوس) قائد الجيش السادس في (ستالينغراد)؛ لكنّ (ستالين) رفض المبادلة، فأعدم النازيونَ الجندي (يعقوب) ابن (ستالين)؛ وقد كان للزّعيم السّڤياتي ابنٌ آخر، طيّار على متن طائرة (إلْيوشَن) الرّائعة، وكان اسمه (ڤاسّيلي)، وقد أبلى البلاءَ الحسن في الدفاع عن وطنه.. وهذا الزعيم الصيني (ماوتسي تونغ) كان له ابنٌ أكبر، شارك في الجيش المليوني الذي ساعد (كوريا الشمالية) بقيادة (كيميل سونغ)، وقُتِل ابنُ (ماو) في المعركة.. لكن هؤلاء عندنا الذين يتخوّضون في ثروات الأمّة، والذين يعيّنون أزلامهم في مناصبَ عليا، والذين خصموا من تقاعُد من أفنوا عمرًا في خدمة الوطن؛ والآن، جاؤوا يطالبون أبناء الفقراء بالخدمة العسكرية، وأعفوا أبناءَهم، وذويهم منها، وكأنّ الوطنيةَ لا تُطرَح إلاّ للفقراء، والكادحين، والطّبقات الوسطى التي تُسْرق أقواتُها.. لكنْ لن نطالبَ مصّاصي الدّماء بأكثر من طاقتهم، وهي طاقة لا تتعدّى الجنسَ، والفُروج الشهية، وتعويضات تقاعُد مريح، وشراء (ڤيلاّ) بعملية (دارتْ).. هؤلاء لا قيمة لهم لا في الدنيا ولا في الآخرة؛ ربَّنا لا تحشُرْنا معهم يوم لقائِك؛ ولكنّ الخطابَ الملكيَ السّامي كان واضحًا؛ فالخدمةُ العسكرية عامّة وشاملة، ولا يُسْتَثْنى منها مواطن، كَبُر شأنُه أو صَغُر؛ فعلى الدولة أن تقوم بإحصاء أبناء هؤلاء، ممّن يَصْلُحون لقضاء الخدمة العسكرية؛ ومَن رفض، فالسجن مقامُه.. فحتى جلالة الملك (الحسن الثاني) قدّس الله روحَه، قضى الخدمة العسكرية، وأنهاها على متن السفينة الحربية (جان دارك)، وقضى على متنها ستة أشهر في عرض المحيطات الهائجة؛ فهل هؤلاء وأبناؤهم، أهمّ من (الحسن الثاني) طيّب الله ثراه؛ فالدّبلوم من جامعة، لا قيمة له أمام دبلوم يمنحه الوطن، وهو شهادة الخدمة العسكرية.. لهذا قبْل توزيع المناصب العليا، لابدّ للمترشّح للمنصب من الإدلاء بشهادة الخدمة العسكرية.