يرى مفكّرون من فلاسفة التاريخ، أنّ التاريخ لا يمكن أن يسير بغير الفرد العظيم، بل ولا معنى للتاريخ بدون هذا الفرد العظيم.. فالتاريخ لا يمكن أن يكون ما كان لوْلا العظماء من الأفراد.. فالبطل، أو الفرد الفذّ، هو المسيّر الأوحد للتاريخ، وما كان الإنسان لينجزَ ما أنجزَه في التاريخ لوْلا هؤلاء الأفذاذ.. والبطل قد يتّخذ شتى الصور، فقد يتجلّى على شكل نبيٍّ، أو قائد عسكريٍ، أو سياسي، أو شاعر، أو مفكّر، أو غيْر ذلك؛ ولكنّ الذي يجْمعهم في بوتقة واحدة إنما هو أثرهم في التاريخ، سواء الماضي منه، أو الحاضر، أو المستقبل. وعند مفكّرين آخرين، نجد توجّهًا مختلفًا تماما؛ فالفرد هنا لا قيمةَ له في التاريخ عند التحليل الأخير… فالقِوى التي تسيّر التاريخ ليست الفرد، بل الظروف هي التي تصنع البطلَ؛ وليس البطلُ هو الذي يصنع الظروف؛ فتناقضات أسلوب الإنتاج، وقوى الإنتاج، ومِلْكية وسائل الإنتاج، وما يتّخذه كلُّ ذلك من شكل اجتماعي وسياسي، يجد تعبيرَه في النهاية في صراع الطبقات، هي تسيّر التاريخَ في نهاية المطاف والتحليل..
لا شكّ في أنّ كل بلد، وأي بلد، يعتبر بطلَه هو الأفضل في كّل العالم، وهذا شيء يمكن فهمُ أسبابِه.. فبالنسبة إلى القرن العشرين مثلاً، فإنّ (غاندي) للهنود، أو (جناح) للباكستانيين، أو (محمد الخامس) للمغاربة، أو (روزڤلت) للأمريكيين، أو (ديغول) للفرنسيين، يُعتَبر هو الأعظم في العالم، وهو الذي أتى بما لم يأْتِه أحدٌ من قبلِه، ومن الصّعب أن يأتي به أحدٌ من بعدِه.. ومن ناحية أخرى، فإنّنا عندما نتحدث عن (البطل)، فليس بالضرورة أن يكون وصْفُنا إيّاه بالبطل قائمًا على حُكْمٍ أخلاقي أو إيديولوجي معيّن، أي أن يكون خيِّرًا أو أدّى خدمةً معيّنةً أو نحْو ذلك.. فالبطولة هنا تعني القيام بدور رئيسي في إنجاز معيّن، أو موقف معيّن، أو سلوكِ سياسةٍ معيّنةٍ، بغضّ النظر عن طبيعة الإنجاز، أو دوافع البطل، أو الحكم الأخلاقي على البطل، أو إنجازه أو هما معًا؛ ومن أهمّ الأسس شخصيةُ البطل نفسِه، وطبيعة إنجازه، ومدى تأثيره، والظروف السائدة.. فبالنسبة إلى شخصية البطل، فإنها تلعب دورًا مهمّا في تحديد نوعية الإنجاز، وطبيعته، وكيفية تعاملِه مع الظرف السائد، سواء بالسلب أو بالإيجاب.. وهنا سنقترح على القرّاء الكرام بطلاً دخل التاريخ بموقفه، وهو رئيس حكومة بلده، إنّه (محمّد مصدَّق)؛ فمن هو هذا البطل يا ترى؟
أوّلاً ألتمسُ من القارئ الكريم، أن يسمح لي بالكشف عن الخلفية التي أُصدر عنها في هذه المقالة، وعن السبب الذي كان خلْفَها قبْل أن أعودَ للتعريف بشخصية (محمّد مصدّق) رئيس الحكومة الإيرانية سنة (1951).. لا أنكر أنّي كنتُ من المتحمّسين لفوز حزب (العدالة والتنمية)، ووصوله إلى رئاسة الحكومة، ولكنّ آمالَنا خابتْ، وطموحاتنا ذابت، فكان هذا الحزب مثلُه مثل الأحزاب التي سبقته تاريخيا.. كنتُ أعتقد أنّ (بنكيران) سوف يكون هو (محمّد مصدَّق) في زمانه، وأنه سيفي بوعوده، لأنه له التزامٌ أخلاقي وديني تجاه مَن منحوه أصواتَهم، وأعطوه ثقتهم.. كنتُ أعتقد أنه سيحافظ على خيرات الأمّة، وسيحرص على أن تكون ثرواتُ البلاد هي ثرواتٍ للشعب المغربي تمامًا كما فعل (محمّد مصدَّق)، حيث اعتبر بترول (إيران)، هو ملْكًا للشعب الإيراني.. كنتُ أظنّه سيكون صارمًا وحاسمًا أمام (فرانسواز لا غارد)، حيث كنتُ أنتظر منه أن يقول لها إنّه لن يمسَّ بحقوق مقدّسة في الإسلام مثْل التقاعد، والأجور، والأقوات، وأنّه لن يغامرَ تحت أيّ ظرف بكل هذه الحقوق، خصوصا وأنّ الشعبَ المغربي هو شعب مسلم..
لكنْ عندما جاءت (فرانسواز لاغارد) كانت بمثابة (الخَيْزَران) المرأة التي كانت تتحكّم في الخلفاء، وفي المسؤولين في العصر العبّاسي، حيث كان الرأيُ هو ما تشير به (الخَيْزَران)، وكذلك كان حالُ (بنكيران) أمام (فرانسواز لاغارد)، ممّا جعله يتخذ مواقفَ وقرارات أذْهلتِ الشعبَ، وخيّبتْ آمالَه، فتجمّدت الأجورُ لسنين طويلة، وتمّ المسُّ بالتقاعد، وتم نسفُ صندوق المقاصّة، والرفع من أثمنة الموادّ الغذائية، وأقرّ التوظيفَ بالتعاقد، وعَمَّ عدمُ الاستقرار في أنفُس المواطنين، وبدأ بعضُهم يحرق جسدَه، وآخرون يُشنقون أنفسَهم، وفشتِ الرّذائلُ، والجرائمُ في الأمّة في عهد رئيسِ حكومةٍ كان شعارُه: (الدّعوة إلى الله).. فلمْ تكنْ سياسة (البيجدي) عامّة إلاّ سياسة أملتْها المؤسّساتُ النقديةُ الدولية.. لقد أظهر (بنكيران) العجائبَ في سياسة التبذير بشعارات (وإياكم الرشوة!)، ومحاربة الفساد؛ لكن الرّشوة ازدادت انتشارًا في المجتمع، والفسادُ هادَنَه (بنكيران) بمقولة: (عفا الله عمّا سلف).. ثم جاء بعده خلفُه (العثماني)، فلم يختلفْ عنه بتاتًا، لأنّ السياسةَ لم تتغيّرْ، وهي سياسة البنك الدولي، وكلاهما سواء بلا شخصية، ولا قدْر، أو منزلة؛ ثم انكشف أمرُهما، وظهر أنهما مجرّد منافقَيْن (مدبّرينْ على راسْهُمْ) ليس إلاّ، حيث ارتبط اسمُ (بنكيران) في الأذهان بتسعة ملايين كتقاعد، وارتبط اسمُ (العثماني) بالڤيلاّ؛ فأين نحن من (محمّد مصدّق)، ثمّ لا مجال للمقارنة مع وجود الفوارق؛ ثم شَتّان بيْن الثَّرا والثّرَيَا!