طه لمخير
رغم انها المقر الرئيسي الذي تنطلق منه الدعاية الاسلامية والداعم الرئيسي لحركات الاسلام السياسي، ورغم انها ظلت لعقود محجا لكبار المنظرين الاسلاميين، وساهمت بنصيب لا يقل عن المملكة السعودية في نشر المذهب الوهابي والعقيدة السلفية في الأقطار المسلمة؛ فان قطر استطاعت -بشكل او بآخر- الحفاظ على استقلالية مثيرة للدهشة عن الرؤية التي تريدها الحركة الاسلامية للعالم العربي.
وفِي حين كان زخم الحجاب منذ الثمانينات قد اكتسح افقيا طبقات المجتمع في الدول العربية المجاورة مثل سوريا ومصر اللتان كانتا مثال التمدن والليبرالية الثقافية والحياة الاجتماعية التقدمية في الحقبة التي يطلق عليها العصر الليبرالي أوائل القرن العشرين الى اواخر السبعينات واستمر ذلك الزخم الأصولي محافظا على وتيرة تصاعدية، نجد العديد من النساء القطريات اليوم يمارسن رياضة الجوكينغ على كورنيش الدوحة وهن مرتديات آخر ما صممته شركات مثل نايك واديداس لممارسات الرياضة بشكل يبدي انعطافات الجسد وتموجاته الأنثوية بطريقة تتعارض مع المحدد السلفي لحجاب المرأة الذي تلخصه عبارة "لا واصف و لا كاشف".
وفِي الوقت الذي تمارس فيه تشكيلات الاسلام السياسي وعلى راسها تنظيم الاخوان المسلمين في البلدان العربية دور الحسبة والرقابة الاجتماعية على الافراد وخاصة النساء، وتقف سدا امام الحريات الفردية والمبادرات المدنية لتغيير القوانين الحادة من الحريات كما تمارس ضغطا اجتماعيا على النساء غير المتقيدات بمحددات اللباس الاخواني؛ نجد ان تاثير هذا التيار في قطر يكاد يكون منعدما؛ فوالدة الامير تميم معروفة بشغفها بالموضة وكلفها بتصاميم اشهر دور الازياء، وبكونها من النساء الخليجيات الأوليات اللواتي تمردن على الحجاب التقليدي الذي يعده الاسلاميون أحد دعائم الاسلام ومن دلائل العفة والشرف الجنسي بالنسبة للمرأة.. بينما تتخلى أخوات الأمير الأخريات كليا عن الحجاب.
وتتعدى هذه الازدواجية في تعامل الاسلاميين مع الامارة إلى أمور أكثر حساسية لعل أبرزها العلاقات الديبلوماسية المعلنة بين قطر وإسرائيل من خلال مكتب العلاقات الاسرائيلية في قطر، في الوقت الذي تعتبر فيه الجزيرة منبرا لحركات الجهاد الاسلامي من حركة طالبان الى حركة حماس مرورا بالتنظيمات الجهادية في سوريا وليبيا.
وإذا كانت التيارات الاسلامية والمتعاطفين معها تعارض باستماتة الإصلاحات الجذرية للمناهج التعليمية ويصرون على ادراج فصول رجعية وبالغة التطرف في مواد التربية الاسلامية، مثل التمييز ضد المرأة والإهانات المقصودة لليهود والمسيحيين واقرار نصوص تحض على التطرّف والكراهية وحذف النظريات العلمية المعترف بها دوليا في مواد البيولوجيا مثلا أو الفيزياء الفلكية، نجد قطر تنتهج استراتيجية تعليمية تتوخى من خلالها خلق مجتمع المعرفة والعقلانية، فمدينة التربية في قطر Education Cityتضم اكليلا من اشهر الجامعات الغربية مثل Northwestern, Texas A&M, Carnegie-Mellon, Virginia Commonwealth, Cornell Medical School the Georgetown University School of Foreign Service، وكلها جامعات حديثة تقوم فلسفتها على الفصل بين الايديولوجيا والعلم و على مبادئ النهج العقلاني والوعي النقدي وعلى القيم والأخلاق التقدمية.
كل هذه المظاهر التي ينقم عليها الاسلاميون العرب في بلدانهم الاصلية لا يجد كبار المنظرين الاسلاميين المقيمين في قطر -والذين اسسوا كلية الشريعة فيها وعلى رأسهم القرضاوي- أي داع لمعارضتها او نقدها، ونادرا ما يصدر عنهم تصريح يعارض سياسات الإمارة المخالفة لما يدعون اليه، كما لا يجد أمراء قطر أي تعارض مع نمط عيشهم هذا ومع تمويلهم اللامحدود للإيديولوجيا التي تقوم على النقيض مما يمارسونه على ارضهم.
ولا شك ان هناك تفسيرا لهذه المواقف غير المنسجمة، سواء في ازدواجية الخطاب والممارسة عند الأمراء، أو في السكوت المريب عند المشايخ والدعاة والبروباغانديين الاسلاميين على التوجهات القطرية، أو في التعايش الظاهري لمجتمع محافظ وهابي مثل المجتمع القطري مع منظومة القيم الليبرالية أو ما يعرف في الخطاب الإسلاموي بالتغريب خاصة في ما يتعلق بالنشاط الاجتماعي للمرأة.
ينبغي لنا هنا ان نضع في الاعتبار عاملان اثنان جعلا النظام القطري في حل من الأغلال التي تفرضها الايديولوجيا وكأنه يحظى بمعاملة خاصة ووضعية استنائية تجعله محميا من الحملات الايديولوجية للتيارات الدينية المحافظة التي تمارس وصاية روحية واخلاقية تتجاوز سلطة الدولة في المجتمعات العربية وقادرة على تحريك الشارع وتجنيد الراي العام ضد القرارات التي تعتبرها تهديدا وجوديا لدور الدين في المجتمع:
-قطر هي احدى أغنى الدول في العالم بما لها من موارد الغاز الطبيعي والنفط، فهي تنام فوق ثالث احتياطي العالم من الغاز ولها ما يغطي حاجتها منه لمدة خمسين عاما قادمة. في مقابل ذلك، نجد أن عدد سكانها الأصليين لا يتجاوزون ثلاثماية الف نسمة، ودخل الفرد فيها هو الاعلى عالميا، ونسبة الشباب الذين يجدون فرص العمل فور تخرجهم تفوق خمسة وتسعين في المائة، ومعظم القطريين لا حاجة لهم في العمل.
ونظرا لهذا التمايز بين حجم الثروة وقلة عدد الساكنة، أصبح بمقدور كل أفراد هذا المجتمع ان ينتمي الى طبقة النخبة التي ألْهَتها حياة الترف والبذخ والإنفاق اللامحدود، المنغمسة في اجواء ثقافة الاستهلاك و أنماط الحياة الاجتماعية المنزهة عن العوز والحاجة، والمفتونة بمنتجات الحداثة و التكنولوجية الرقمية، وهو ماأمات كل رغبة في النضالية أو أي طموح نحو مثاليات إسلامية أو مشروع اسلامي كبير. ليس من الصعب رؤية سلفي ملياردير بلحيته المسبلة يرتدي قميصا حريريا عليه شارة شركة لاكوست مثلا و يمارس هواية سباق السيارات الفارهة في احدى حلبات السباق المنتشرة في ضواحي العاصمة.. أو فتاة عشرينية تلبس العباية وتملك حسابا على انستغرام تضع فيه صورا لها وهي تتسوق من محلات فيكتوريا سيكريت وترتدي ساعات شانيل وتخرج لسانها بطريقة "سيكسي" للكاميرا. وبينما كان الصقر أحد الوسائل التي كانت تعتمدها القبائل القطرية لإطعام عناصرها قبل ثلاثين عاما فقط، اصبح اليوم علامة على الثراء والاستعراض. هنا تفقد الايديولوجيا حرارتها وتذوب في عوالم الحداثة واقتصاد السوق.
-أما العامل الثاني فيكمن في كونها الراعي الرسمي للإيديولوجيا، و اكبر ممول للتيار الاسلامي، وهذا الأخير يعتمد عليها بشكل شبه كلي في فرض إراداته وتمويل مشاريعه وبلوغ أهدافه والقدرة على التأثير والاستقطاب، وهذه أمور بحد ذاتها تجعل الاسلاميين مدينيين لهذه الامارة بالكثير، على الأقل ظرفيا وبراغماتيا، ويدفعهم الى تقديم امتنانهم لها في شكل نوع من التغاضي والتعامي عن الاختيارات التي تبدو في كثير من الأحوال لا إسلاموية ومتعارضة مع التصور المثالي الذي يحلم به الاسلاميون للمجتمعات العربية، وربما إيمانا منهم ان ما تقوم به قطر من استضافة الانتيليجينسيا الغربية وإنشاء الجامعات والمعاهد الغربية والتعاقد مع كبار الأكاديميين الغربيين وتمويل كبريات المؤسسات البحثية(think tanks) ذات التأثير على صناع القرار في الغرب، هو مفيد لهم في نهاية المطاف، لان هؤلاء جميعا يقدمون خدمات عالية المستوى سواء في استمالة السياسيين الغربيين للتعامل مع الاسلاميين كبديل مقبول للواقع السياسي اللاديموقراطي، أو في كيفية إدارة المعارك الايديولوجية ضد خصوم الاسلاميين سواء في السياسة او الاعلام او الانترنت.