لقد استهلّ [أفلاطون محاورة (الجمهورية) ببحث مستفيض في (العدالة) ما معناها على وجه التحديد؟ كان لابدّ له أن يفْعل ذلك ليجعل من هذه الصّفة الجوهرية أساسًا يقيم عليه الدولة التي أراد أن يقيمها؟ لكنّه تردّدَ لحظة: أيّ الطرفين يبدأ ببحثه ليطبِّق النتيجةَ التي ينتهي إليها على الطرف الآخر؟ أيبدأ بالفرد الإنساني فيحلِّل خصائصه، ليكون له بذلك ما يمكن إسقاطُه على بناء الدولة؛ أم يبدأ بالدولة ليستخلصَ من تعادُل كيانها كيف يجيء الفردُ الإنسانيُ المتعادل؟ لكنّه آثر هذا البديلَ الثاني؛ وإليك الآن حديثَه في هذا الصدد لطرافته..
يقول: [هَبْ أنّه قد طُلِبَ إلى شخص قصير النظر أن يقرأ حروفًا صغيرة وهو منها على مَبْعدة، ثم جاء من أنبأَه بأنّ الحروف نفسَها مكتوبة في مكان آخر بحجم أكبر، أفلا تكون هذه فرصةً نادرة له، تتيح له أن يبدأ بقراءة الحروف الكبيرة، ثم ينتقل منها إلى الصغيرة، ليرى ما بيْنهما من تماثُل إنْ وُجد؟ إنّ العدالة التي هي موضوع بحثِنا، إذا كانت تصف الفردَ باعتبارها فضيلة له، فهي كذلك تصف الدولةَ؛ والدولة أكبر من الفرد؛ إذن فالأيْسر هو رؤية العدالة في صورتها الكبيرة، ومن ثمّة فإني أقترح البحثَ عن طبيعة العدالة كما تتجلّى في الدولة أوّلا، لننتقل من الأكبر إلى الأصغر، فتسهل المقارنةُ بيْن الصورتين.. وإذن فلنتخيّلْ دولةً تنمو، وتتكوّن أمام أبصارنا، لنرى العدلَ والظلمَ، إذ هما ينموان فيها]..
هكذا أراد [أفلاطون] أن يفهمَ حقيقة الفرد في اكتسابه لفضيلة العدل، وقد يكون هذا هو المنهج السديدُ، عندما تكون المعاني المطروحة للبحث منظورًا إليها في صورة كمالِها النظري، فعندئذ يمكننا أن نرسم صورةَ الدولة المثلى، فنرى في جنباتها كيف يكون الفردُ الأمثلُ من أفرادها؛ أمّا إذا كانت الصورة المطروحة للبحث مأخوذة من الواقع الفعلي المحسوس بكلّ ما يشوبه من نقص وتشويه، فإنّ المنهج الأفلاطوني لا يُسْعِف، ويكون حتمًا علينا أن نعكس طريق السير، فنرى الأفرادَ في نقصهم، لنخلُصَ منهم إلى تصوّر الحكومة التي تسودهم في أوجُه نقْصها الذي يعكس بالضرورة نقْصَ الأفراد، إذِ الأمرُ، كما قيل، هو أنه كيفما يكون أفراد الناس، تكون الحكومة التي تُولّى عليهم، لا شكّ في ذلك ثم انظُر من حولِك..
ترى [أفلاطون] يعتبر العدالةَ فضيلة، ويمقُت الظّلمَ مقتًا تامّا ومهينًا، ويتوقّع مستقبلاً حالِكَ السّواد لأمّة ظالمة، ولعلّ هذا ما عناه [ابن خلدون] بقولتِه الشهيرة: [الظلمُ منذِر بخراب العمران]؛ ويقول عزّ وجلّ في كتابه العزيز: [لا تخاطبْني في الّذين ظَلموا إنّهم مُغْرقون].. فنحن نعيش في مجتمع ظالم، وقد قال [أفلاطون]: [من فكّر في الشر لغيره، فقد قبِل بالشر في نفسه]؛ فنحن نرزح تحت حُكْم حكومة ظالِمٌ أهْلُها، تعتبر الشعب مجرّد قطيع، فعلّمتْه الظلمَ بسياستِها، وخساستِها، وخساسةُ المرء، كما يقول (أفلاطون) تُعرفُ بكثرة كلامه، وفي إخباره بما لا يُسْأل عنه، ولا يراد منه، وهو ما تفْعله حكومةُ (البيجدي) الإخوانية التي ابتُلينا بها عن طريق (الديموقراطية.
ذات يوم، اقترح جلالة الملك (الحسن الثاني) طيّب الله ثراه، خصْم الثلث من مبلغ الكراء بهدف التخفيف عن الموظّفين والعمّال المكترين، لكنْ دون جدوى؛ وها همُ اليوم يَخْصمون الثلث من تعويضات التقاعد، وصار تقاعُدُ الكادحين في مهبّ الريح؛ والتقاعد يجب أن يؤدّى من خزينة الدولة التي خدمها المتقاعدُ طيلة شبابه، وليس صندوقًا يتحكّم فيه سماسرة ومضاربون؛ يجب على الدولة أن تؤدّي تعويضات التقاعد، تماما كما فعلتْ مع (بنكيران) الذي لم يقدِّمْ شيئًا للدولة. قامت الدولةُ بسنّ قانون يخدم ملاّكي دُور الكراء التي بُنيَتْ من سُحْتٍ، وتهريبٍ، ورشوة، وحشيش، وسرقاتٍ؛ هذا القانون الظالم يُرغمُ المكتري البسيط بأن يضيفَ كلّ ثلاث سنوات (10 بالمائة) إلى مبلغ الكراء، ونحن نسأل على أيّ أساس؟ وما الحكمةُ في ذلك؟ هل البيوتُ تزداد اتّساعًا كل ثلاث سنوات؟ هل راتبُ الموظّف يعرف زيادةً كل ثلاث سنوات؟ فما السِّر في هذا الظلم؟ وبعد سنوات، سيفوق مبلغ الكراء راتبَ الموظّف، أو المتقاعد، وستجد الآلاف من المكترين في الشوارع، وسوف تكون بدايةُ فتنة ربُّكَ أعْلمُ بمجراها ومنتهاها.. والآن، تراهم يحذّرون من (أنفلوانزا الخنازير) ويتلاعبون بعقول الناس؛ لكنْ إذا قَدِم المواطنُ للتبرّع بالدم، استقبلوه فورًا، لأنّ لهم في دمه مصلحةً؛ وإذا قدِم بسبب مرض عليه الانتظار وإذا مات كان خيرًا له؛ فالتجار يروّجون الآن للقاحات وهمية، ليحْصدوا الملايين بسبب خوفٍ افتعلوه واستثمروه، ويوم (03 مارس) القادم، سيقولون إنّ الوباءَ رحل، بفضل حكومة حازمة ويقظة؛ ثم يرون كَمْ دَرَّ عليهم هذا الوباء لِكرمه من الملايين.. وفي الوقت الذي ينشغل فيه المواطنُ بالوباء، سوف يمرّرون قراراتٍ أشدّ وأنكى من الوباء؛ هذه هي سياستهم الظّالمة كما عهدناها..