حتى أواخر القرن الثامن عشر كانت العطور الأكثر شعبية هي تلك التجميلية وليست الطبية، فاختار الناس العطور الثقيلة والقوية من الحيوانات كالمسك والزباد والعنبر. ولكن سرعان ما انتهت الحاجة لهذه الروائح مع عودة الإنسان لعادة الاستحمام، واللجوء لموضة العطور الرقيقة الأنيقة، وأصبح من يتعطر بالمسك يثير حوله الشكوك في نظافته، حتى ارتبط المسك بالغرائز الجنسية الحيوانية المتعارضة مع المدنية الحديثة في ظهورها.
حاول عالم النفس والمتخصص في أمور الجنس هافلوك إيليس رد تشويه سمعة المسك باعتبارها نقطة تحول مهمة في تاريخ الجنس، وادعى أن النساء اللواتي استمررن في استخدام المسك حتى القرن الثامن عشر، استخدمنه باعتباره وسيلة لإبراز أنفسهن، وليس إخفاءً لرائحة الجسد الكريهة، وشبه هافلوك وظيفة المسك عند المرأة بوظيفة «الكورسيهات» التي كانت تستخدم لإبراز وتضخيم المنحنيات الأنثوية.
يشير المؤرخ الفرنسي آلان كوربن إلى تزامن تراجع التعطر والاهتمام بالروائح الطيبة مع ظهور العقلية البرجوازية، في أواخر القرن الثامن عشر. وكانت البرجوازية في أكثر حالاتها تشددًا مسؤولة عن انتشار اللهجة المنددة بانتشار العطور من جهة أخلاقية، فإن الطبيعة المؤقتة للعطور ترمز بوضوح إلى التبذير والإسراف، والاستمرار في استخدامها استمرار لإعلاء قدر المتعة المنحطة المضادة لأخلاقيات العمل، ورفضت هذه الطبقات العطور القوية المفعمة بالحيوية بشكل خاص بسبب طبيعتها الجنسية الفاضحة.
بشكل خاص ستستمر الروائح وكيف تبدو رائحتنا مصدر قلق واهتمام، فحتى الآن ما زال يتجه الكثير بعدًا عن العطور الثقيلة نحو العطور الرقيقة الخفيفة، ويرتبط هذا التوجه بنزعة أخلاقية بداخلنا تتزامن مع التوجه نحو الأكل الصحي وممارسة الرياضة وما يسمى بحركات الاعتدال الجديدة وغير ذلك من الموضات التي تفرض تزمتًا في قواعدها
حتى وقت قريب، ارتبط الشم عند الكثير مثل فرويد واقتصرت رائحة جسم الإنسان لديه في التغوط، واعتبر فرويدالمرحلة الشرجية من مراحل التطور النفسي، وشارك فرويد وعاصره مختص الأنف والأذن والحنجرة فيلهيلم فليس والذي طور نظرية أنفية ذات توجه جنسي، واعتقد في أنه ثمة انعكاس عصبي يقوم بالأساس على ترابطات بين الشم والأعضاء التناسلية؛ وبناء على هذا الاعتقاد، أجرى فليس عمليات صغيرة في داخل فتحة الأنف ليخفف من الاضطرابات النفسية والجسدية الجنسية لدى النساء.
انتظرت البشرية بعد ذلك كثيرًا، ففي عام 1959، أدخلنا الكيميائي الألماني أدولف بوتينانت عصر «الفيرمونات»، وهي الرائحة الأصلية للجسم بدون عرق أو قذارة، وذلك بعد أبحاث استمرت 20 عامًا، قام فيها بتشريح مليون من فراشات دودة القز، وتمكن من عزل المادة الكيميائية الفعالة «الفيرمون» الذي يغوي ذكور الفراش. وتوصلنا معه إلى أن الفيرمونات هي رسائل كيميائية تشبه الهرمونات، ولكنها تؤثر على الآخرين من نفس النوع، وتعمل بتركيزات ضئيلة للغاية، وبكميات أقل من أن تكتشفها حاسة الشم.
وتحس بالفيرمونات الأنثوية خلايا عصبية متخصصة لدى الذكر، ويكفي فيرمون واحد ليقشعر شعره وينطلق نحوها محملًا بعواطفه دون إدراك الدافع؛ فالفيرمونات تعمل على مستوى اللاوعي وتمر إلى المخ مباشرة، فهي روائح بلا رائحة.
وبسبب ذلك أقيمت مئات الدراسات التي توصلت لنتائج لم نكن نتخيلها مثل أن الفتيات اللواتي تسكن نفس الغرفة تتزامن لديهن مواعيد الدورة الشهرية بعد انتشار فيرموناتهن بالغرفة، أو أن النساء ليست في حاجة إلى عطر «شانيل 5» من أجل جذب الرجل، فلديهن ما هو أقوي
ليس من الواضح لنا حتى الآن كيف تتم العملية الحسية داخل الأنف، ولكننا نعلم أن للأنف روابط خاصة مع الجزء الشمي من الدماغ، فهناك عدد من الممرات العصبية تمضي عبر ثقوب في مصفاة عظام الأنف وتصل إلى أماكن أخرى بالمخ، وفيها يتم تفعيل ونقل الإشارات لمواضع لها أهميتها في التعبير عن الانفعالات كالنزوع العدواني والسلوك الجنسي.
مع علو نبرة العاطفة والرغبة والحدس عند فلاسفة عصر التنوير، ارتفع شأن حاسة الشم وامتدحها روسو وجوته وأقرا بأهميتها للشواغل العاطفية. عادت أهمية المشاعر والحياة الجنسية والحب ومعها روائح الجسم حتى الكريه منها، فقد حاول الرومانتيكيون التمرد على ما فات في حضارتهم البرجوازية، وعاشوا في عزلة يتفحصون أجسامهم ومشاعرهم ويثملون ويطلقون العنان لنزعتهم الجنسية، وأعلوا شأن السعادة الحسية المرتبطة بالشم واللمس، هاتين الحاستين المذمومتين، ليعودا ويظهرا بالأدب عند الطبيعيين عند إميل زولا وبلزاك وفلوبير، وظهر العطر بثياب الملكة فيكتوريا عندما زارت فرنسا عام 1855، وصاحت نساء البلاط الفرنسي فور أن اشتمت أنوفهن رائحة
مع انتشار عطور الأزهار والأعشاب أصبحت فرنسا المهيمن على صناعة العطور العالمية، وأنتجت أكثر روائحها شعبية، وهو عطر الكولونيا، وهو وصفة تم إنتاجها في الأصل حمايةً من وباء الطاعون. من مقالة بموقع The ويك
عاد الاستحمام باعتباره عادةً إنسانية وتقليدًا ضروريًّا خلال الثورة الفرنسية، وتحول البشر لارتداء طبقات أقل من الملبس، وأقمشة قطنية سهلة الغسل، وتخلص الكثير من تلك الرائحة السيئة والقذارة المتراكمة على الجلود، والاعتقاد بأنها تحميهم من المرض، وكما الأوروبيون، كان الأمريكيون مترددين في الاستحمام حتى أواخر القرن التاسع عشر وانتشار دراسات حول ضرورة الاستحمام.
ومع الاهتمام المتزايد بالنظافة، لم تعد العطور القوية ضرورية لمكافحة روائح الجسد الكريهة، وأصبح ارتباطها بالطبقة الأرستقراطية عائقًا للمبيعات، لذا أصبحت الصناعة متوافقة أكثر مع الموضة، وانتقلت العطور من أرفف الأدوية إلى أرفف مستحضرات التجميل، وبدأ ارتباطها المتزايد بالإناث،
سكينة عشوبة طالبة وباحثة