عندما يتحدث أمين عام جماعة "العدل والإحسان" محمد عبادي، يضع أطر وكوادر الجماعة أيديهم على القلوب خشية انفلات كلمة من الرجل هنا، أو عبارة هناك تضرب العمق التواصلي للجماعة الذي تحرص على تنميقه بالكلمات المنتقاة بعناية، وعلى تأثيثه باستقدام راغبين من خارجها في لعب دور جماهيري لايتوفر لهم داخل أحزابهم وتنظيماتهم السياسية الأصلية، وفي الحرص دوما وأبدا على ألا يفضح المعبر عنه عمق المفكر فيه لدى هاته الجماعة الخاصة من نوعها
ذلك بالتحديد ماوقع الثلاثاء، بعد خروج كلمة العبادي إلى العلن متحدثا فيها عن "تشميع" المنازل وقصده هو إغلاق المقرات غير القانونية التي تلجأ إليها الجماعة لإقاعة تجمعاتها غير المرخصة، ولإقامة صلواتها في ضرب واضح لظهير تنظيم دور العبادة في البلاد، والتي غيرت شكل تصاميمها القانونية لكي تتحول من منازل مخصصة للسكن إلى أماكن تتوفر فيها كل مقومات مقرات الاجتماعات العمومية، وهو مافرض تطبيق القانون على هاته المقرات، لأن الجماعة وحتى إشعار آخر يسري عليها القانون الذي يسري على الأربعين مليون مغربية ومغربي الذين يعيشون معنا على هاته الأرض..
ملتقطو الرسائل كانوا مبتهجين الثلاثاء وهم ينصتون للعبادي ولكلمته المصورة، قبل أن تحذف فيما بعد وتكتفي الجماعة بنصها المكتوب أو بالصالح للنشر في هذا النص المكتوب.
يتحدث العبادي في كلمته عن اعتقالات بيوت المؤمنين وإغلاقها حتى لا يلجها المؤمنون من جديد. وكلمة المؤمنين لوحدها في السياق تطرح علينا سؤالا كبيرا وعريضا لابد من الرد عليه، فإذا كان أعضاء الجماعة هم المؤمنون، وإذا كانت هاته المقرات غير القانونية هي بيوت المؤمنين التي تقفلها الدولة لكي لايلجها هؤلاء المؤمنون اللطفاء فأي وصف يمكن أن نطلقه على بقية الشعب المغربي من غير المنتمين للجماعة؟
أي توصيف؟ وأي كلمة؟ وأي عبارة؟ وأي تحديد للآخرين في مقابل كلمة المؤمنين هاته؟ لا يقول العبادي أعضاء الجماعة، وهو يعرف لماذا لأنه يعتبر في قرارة نفسه وقرارة تفكير جماعته أن أعضاءها هم المؤمنون وأن الآخرين، لا زلنا نبحث لهم عن توصيف يكون صادقا ومسايرا لما تفكر فيه الجماعة، ولما يغفل عنه الفضلاء الديمقراطيون الذين يسايرون هواها بحثا عن قليل جماهيرية مما لم يتوفر لهم في زمن العنوسة اليسارية القاتلة، وفي زمن انفضاض الناس عن شعارات رفعت في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي واتضح أنها لم تجد نفعا ولم تغير شيئا طالما أن من طبقوها أو رفعوها كانوا أسوأ سفراء لها على الإطلاق.
يمضي قدما العبادي في كلمته متحدثا عن شرعية المقرات التي أقفلتها السلطات المحلية، ويرى تبريرا واحدا لهاته الشرعية هو أن الدولة لا تمنح للجمعية المسماة "العدل والإحسان" ترخيصا بإقامة تجمعات عمومية لأن الدولة تعتبر أن إشعار التأسيس الذي تقوم عليه هاته الجمعية غير قانوني.
هذا التبرير لوحده خطير للغاية، فهو يعطي الحق لأي واحد منا أن يفعل مابدا له فور أن ترفض سلطة ترابية ما طلبا له، وهذا التبرير لوحده يؤكد تصور الجماعة للقانون الذي تلجأ للحديث عنه إيجابيا عندما يساير حكم من أحكامه ماتريده، لكنها تنتفض ضده وتعتبره الجور والظلم والعدوان فور أن يذهب عكس ماتتصوره للمجتمع وللبلد وللدولة من اختيارات خاصة بعض الشيء
ثم هناك الصدى الآخر الأكثر خطورة في الكلمة، وهو التلويح عبرها منذ البداية وحتى النهاية أن الجماعة لم تنجر أبدا ولن تنجر إلى رد الفعل، وأنها لن ترفع سلاحا في وجه الدولة ولن تشتبك معها بالأيدي، ونصح "المؤمنين" بأن يضبطوا أنفسهم وألا ينزلقوا للردود التي قد تكون وبالا عليهم "فيميلوا عليكم ميلة واحدة"
من يطالع هذا الكلام سيقول بلغة صحرائنا المغربية "أوخييرت، هذا كلام عقلاء صابرين متزنين"، لكن من يمارس قليلا من السياسة سيشتم فيه وسيظن، علما أن بعض الظن إثم شيئا من التهديد والوعيد، ونوعا من إرسال رسالة أخرى إلى من يهمه الأمر هذه المرة تقول إن ضبط النفس مستمر إلى حدود الآن، وأن الجماعة لم تلجأ للسرية ولا للعنف ولا للاستعانة بالخارج إلى حدود الآن على الأقل
لم تلجأ للسرية؟ الموضوع قابل لنقاش كبير طالما أن اجتماعات الجماعة الخاصة بها لا يحضرها إلا "المؤمنون" إياهم وأن الاجتماعات الأخرى المخصصة للاستهلاك الإعلامي لا يقال فيها شيء ذو بال
لم تلجأ للعنف؟ هذه مسألة أخرى فيها نظر، ويكفي أن تسألوا الطلبة الذين عبروا الجامعات المغربية في تسعينيات القرن الماضي قبل التمكين للجماعة في الكليات والمعاهد من هو الفصيل الطلابي الأكثر دموية الذي قتل وعذب واعتقل معارضيه من الطلبة ؟ ومن الفصيل الطلابي الذي كان ينظم الغزوات تلو الغزوات ؟ ومن الفصيل الطلابي الذي تورط في دماء كثيرة في تلك الحقبة الملتبسة واستفاد من تواطؤ مكشوف من طرف من كانوا يريدون إفراغ الجامعة المغربية من روحها العلمية وإلحاقها بغيبيات سيدي عبد السلام وترهاته؟
ولأن الصب تفضحه عيونه، ولأن للجماعة تصورا للأشياء أعلنته غير مامرة إن سرا أو علنا وهو القائم على "القومة" إياها وعلى الرؤى التي حلم بها ياسين ولم تتحقق له في حياته وظلت خيطا رابطا يجمع أحلام المؤمنين هناك، فإن عبارة وعد الله بتحقيق الخلافة الإسلامية التي ندت ذات هنيهة كانت كافية لقول كل شيء ولكي توقظ النائمين من نومهم، ولكي تذكرنا أن المصرح به في الغالب شيء وأن المفكر فيه شيء آخر، وأنه من الضروري لكوادر الجماعة وأطرها أن تواصل منع العبادي من الحديث لأنه كلما نبس ببنت الشفة إلا وقال مايتفادى المتواصلون الأبديون دوما وأبدا التوقف عنده، ولله الأمر من قبل ومن بعد وللموضوع صلة بكل تأكيد في اللاحق من الأيام..