استطردَ البغلُ رغيمُ البهائم ليقول: أيّها الملِك العادلُ! كنّا وكان آباؤُنا سكّانُ الأرض، قبْل خلْق آدم أبي البشر، قاطنين في أرجائها، تذْهب وتجيءُ كلّ طائفة منّا في بلاد الله طَلبًا للعيش، كلّ منه مقبلٌ على شأنه في مكان يوافق مآربه من برّية، أو أجَمةٍ، أو جبل، أو ساحل، أو تلال، أو غياض، أو رمال، آمنين في أوطاننا، معافين في أبداننا، ومضتْ على ذلك الدّهورُ والأزمانُ، حتى جاء بنُو آدم، وانتشروا في الأرض بَرّا، وبحرًا، وسهلاً، وجبلاً، وضيّقوا علينا الأماكن والأوطان، وأخذوا منّا مَن أخذوا أسيرًا، من الغنم، والبقر، والخيل، والبغال، والحمير، وسخّروها واستخدموها وأتعبوها بالكدّ والعناء في الأعمال الشّاقة من الحمْل، والرّكوب، والشّد في الدواليب والطواحين، بالقهر، والضّرب، والهوان، وألوان العذاب، فهرب منّا من هرب في البراري والقِفار، فشدّوه بالغِلِّ، والقيد، والقنص، والذّبح، والسّلْخ، وشَقِّ الأجواف، وقطْع المفاصل، ونتْف الرّيش، وجزِّ الشّعر والوبَر، ثم نار الوقْد، والطّبخ، والتشويه، وأنواعٍ من العذاب، لا يبْلغ الوصفُ كُنْهَها.
فسأل (بيراسْت الحكيم) زعماء الإنس: ماذا أنتم قائلون فيما حكى البغلُ من جَوْر وعدوان أصاب البهائمَ والأنعام بسببكم؟ قال زعيمُ الإنس: إنّ لنا حُجَجًا عقلية تؤيّد حقَّنا على هذه البهائم في أن تكون عبيدًا لنا، نتحكّم فيها تحكُّمَ الأرباب، من ذلك ما أنعم الله به علينا من صورة حسنة، وهيكل قويمٍ، وحواسّ مُدْركة، ونفْسٍ ذكيّة، وعقْل راجِح. فسأل (بيراسْت) البغلَ، زعيم البهائم، قائلاً له: ماذا تقول في ذلك؟ فأجاب البغلُ: إنّ الله جلَّ ثَناؤُه، ما خلقهم على تلك الصّورة، لتدلّ على أنهم أرباب، ولا خلقنا على هذه الصورة لتدلّ على أنّنا عبيد؛ لكنّه تعالى فعل ذلك لعلْمِه أنّ تلك البنْية أصْلح لهم، وهذه أصْلح لنا، وبيانُ ذلك، أنّ بني آدم عُراة، بلا ريش على أبدانهم، ولا وبر، ولا صوف على جلودهم، يقيهم الحرَّ والقرّ؛ ولـمّا كانت أرزاقُهم من ثمار الأشجار، ودِثارُهم من أوراقها، وكانتِ الأشجارُ منتصبة في جوّ الهواء، خُلِقَت قاماتُهم منتصبة، ليسهلَ عليهم تناوُل الثّمر، والورق منها؛ وأمّا نحن، فلأنّ أرزاقَنا من حشيش الأرض فقد جُعِلت أبدانُنا منحنية ليسهل علينا تناوُلها؛ وإذنْ، فلا أحسَن، ولا أرادَ في الاختلاف بيْننا وبيْنهم؛ بل هي طبيعة العيش في كلتا الحالتين، وما تقتضيه.
فقال [بيراسْت الحكيم] لزعيم البهائم: لكنْ، ماذا تقول في قول الله عزّ وجلّ: (لقد خلقْنا الإنسانَ في أحسن تقويم)؟ فقال البغلُ: الآيةُ تعني أنّه تعالى خلقه في تناسُبٍ تامٍ مع ظروفه، فلم يجعلْه طويلاً دقيقًا، ولا قصيرًا لزيقًا، بل جعله ما بيْن ذلك، وكذلك الأمر معنا؛ فنحن من هذه الناحية سواء. فردّ زعيمُ الإنسان على زعيم البهائم: من أين لكم اعتدالُ القامة، واستواءُ البنْية، وتناسُب الصّورة، وقد نرى الجملَ عظيم الجثّة، طويل الرَّقبة، صغير الأذنين، قصير الذّنب؛ ونرى الفيلَ عظيم الخِلْقة، طويل النّابيْن، واسع الأذنين، صغير العينين؟ فأجاب البغلُ: ذهب عليكَ أيّها الإنسانُ، أحسَنها، وخفي عليكَ أحْكمها! أمَا علمتَ أنّكَ لـمّا عِبتَ المصنوع، فقد عبْتَ الصّانع؟
وتابع زعيمُ البهائم هجومَه على زعيم الإنس قائلاً: إنّه إذا كان ما زعمتَ عن جودة حواسِّكم، ودقّة تمييزِكم، فليست ذلك بما تنفردون به دون الحيوان؛ ففي الحيوان ما هو أدقُّ منكم حاسّةً وتمييزًا؛ فالجمل يرى موضعَ قدميه في أوعر الطّرقات برغم ظلمة الليل؛ والجواد يسمع وَطْءَ السائر منْ بُعْد في سواد الليل، حتى لقد يوقظ صاحبَه من نومه بركضة رِجْله حذَرًا عليه من عدوٍّ هاجمَ؛ وأما الذي ذكرتَه من رجحان العقول، فلسنا نرى لذلك أثرًا بأشياء ليستْ مِن صُنعِكم، فالعقلاء إنما يفتخرون بأشياء، هم صانِعوها، وأنتم ماذا صنعْتم؟ لا شيء! وهنا طلب البغلُ من طوائف الحيوان أن تتكلّمَ كلُّ طائفة عن نفسها؛ فتكلّمَ الحمارُ، والثّورُ، والكبشُ، والجمل، والخنزير. وهكذا؛ لبثَ الحوارُ قائمًا وممتعًا، حتى إذا ما فرغ الفريقان من هجوم، ودفاع، وبذلَ كلٌّ منهما في الأمر جُهْد طاقته، استشار (بيراسْت) أعوانَه، فكاد الرأيُ بيْنهم جميعًا يلتقي عند فكرة رأوها عادلة، وهي أنّ الحيوان صاحب حقّ، وأنّ بني آدم جائرون بما بيْن أيديهم من بهائمَ وأنعام، وأصدروا نُصْحهم لصنوف الحيوان الأسيرة أن تهْرب كلّها من قبضة الإنسان دفعةً واحدة، كما فعلتْ حمُرُ الوحش، والغِزْلان، والسّباع.. لكنّ فرارَ الأنعام والبهائم قد يكُون أمرًا محالاً، لأنّ الآدميين يقيّدون عادةً ما في حوزتهم أثناء الليل، ويغلقون دونه الأبوابَ، فاقترح أحدُ الأعضاء على الرئيس أن يبعث بقبائلَ لتفتح الأبوابَ المغلقة، وتفُكّ القيودَ عن البهائم، وتَخْبلَ الحرّاسَ حتى تَبعدَ البهائمُ عن منطقة الخطر، وتنجوَ بحياتها..
هذه خلاصةٌ لِـما أوردَه (إخوان الصّفا) في رسائلهم، ولمن شاء التفصيل المستفيض، فليرجعْ إلى الجزء الثاني من تلك الرسائل.. لستُ أدري ماذا يطوف برأس القارئ الكريم، بعد قراءتِه لهذا الحوار الممتع، وهل فيه رموز، أو إيحاءات، أو دلالات، حرص (إخوانُ الصَّفا) على إخفائها بالحيوانات، أو أنّ لهذا الحوار مغزاه البعيدَ في الحياة السياسية التي أحاطت بـ(إخوان الصَّفا) في عصرهم؟ هذا الحوار الشيق لفتَ انتباهَ عدد من الأدباء والمفكّرين، وكلّ منهم فسّره بطريقته، وتباينتْ مواقفُهم؛ ودون أن أجازف بإعطاء تفسير شخصي، فقد وقع اختياري على تفسير مفكّرٍ وفيلسوف كبير يُدْعى الدكتور (زكي نجيب محمود) في كتابه: [ثقافتُنا في مواجهة العصر]؛ صفحة: (185)، إذ قال: [أمّا أنا فقد أبى على خيالي إلاّ أن أترجمَ صنوفَ الحيوان إلى طوائف من البشر أنفُسِهم، حاق بهمُ الظّلم على أيدي قلّةٍ آلت إليها قوّةٌ، وجاهٌ عريض، وحُكْمٌ نافذٌ، فكان لهم ما أرادوا، ولم يتركوا لسواهم الأمل في إرادة، أو حرّية، أو عيش كريم؛ إذن فالأمرُ هو ما بيْن الحاكمين والمحكومين، ممّن كانت لهم ظلامةٌ، وبقي على المؤرّخين أن يبيّنوا لنا إلى أيِّ الطوائف من سواد الناس رَمزَ المؤلّفون بالبغل، والحمار، والثّوْر، والجمل، والخنزير؟ فلكلٍّ منها شكاتُهُ الخاصة، فوق الشكوى العامّة؛ وإذا صدقَ فَهْمي لقول (إخوان الصّفا)، إذن، فقد كان ما قالوه نموذجًا جميلا من ثورة الفكر التي نريدها في عالمنا العربي]..