في صفحاتٍ طوال من الجزء الثاني من (الرسائل) أجرى [إخوانُ الصّفا] محاكمةً بيْن بني الإنسان، وأنواع الحيوان، إذ رفعتِ الحيواناتُ شكواها إلى وليِّ الأمر، ممّا تعانيه مِن عَنَتِ الإنسان، رافضةً أن يكون للإنسان فضلٌ عليها، من حيث إنّها، هي وهو معًا، صنعةُ لله.. يسأل وليُ الأمر بني الإنسان، ماذا يقولون دفاعًا عن أنفسهم؟ فيجيبون بما يظنّونه مؤيِّدًا لموقفهم من آيات القرآن الكريم؛ لكنّ الحيوان سرعان ما يقدّم تأويلاً لهذه الآيات، فيبيّن أنّ الإنسانَ قد تجاوز حدودَ الحق، حين فهمها على الوجه الذي فهمها به.. وأما وليُ الأمر هنا، فلا هو إنسان ولا هو حيوان، ليكون محايدًا في نظْرتِه وحُكْمِه بيْن المتخاصمين، وهذا القاضي مِن جنسٍ محايد يُدْعى [بيراسْت الحكيم]؛ وتبدأ الصورةُ الأدبية الرائعة التي رسمها المؤلّفون، بأنْ جعلوا مقرَّ [بيراست الحكيم] جزيرةً في وسط (البحر الأخضر)، ممّا يلي خطَّ الاستواء، وهي جزيرةٌ طيّبةُ الهواء والتربة، فيها أنهار عذْبة، وعيون جارية، وأشجار مخْضرّة عالية، وأخرى منحنية، مختلفةٌ ألوانُها وثمارُها:
حدث ذات يوم أن طرحتِ الرياحُ العاصفةُ، والأمواج الجارفة، مركبًا من سُفُن البحر، إلى شاطئ تلك الجزيرة، وكان على متن السفينة المحطّمة قومٌ من التجار، والصناع، وأهل العلم من بني الإنسان، فخرجوا من مركبهم إلى أرض الجزيرة، وطافوا بها، فرأَوا من ضروب النّبات، ومن صنوف الحيوان، من بهائمَ وأنعام، وطيور وسباع، ووحوش، وكان الكُلّ يأْلَف الكُلَّ، ويتعايش في وئام وانسجام، فاستطاب بنُو الإنسان الجزيرةَ وما عليها، واتخذوها موطنًا، وأخذوا يُبْنون، ويعمّرون، وينشطون بحياتهم على نحو ما اعتادوه سابقًا في بلادهم الأصلية؛ فلم تأخذْهم عندئذ ريبةٌ من أنفسهم حين أرادوا استخدام واستغلال، واستعباد ما شاؤوا أن يستخدموه من صنوف الحيوان، فنفضوا التعايش والوئامَ مع الحيوان، لكنّ هذا الحيوان استاءَ من سياستهم، وهو لم يأْلَفْ شيئًا كهذا من قبْلُ، إذ أفزعتْه هذه المصيبةُ التي نكب بها من حيث لا يدري من طرف الإنسان، وأراد الحيوانُ التمرّدَ ولكنْ هيهات أن يتركَ له الإنسانُ زمامًا بعد أن أمسَكَه بكلْتا يديه.. فما كان من البهائم والأنعام إلاّ جمعتْ زعماءَها، وخطباءَها، وذهبتْ إلى [بيراست الحكيم] وشكتْ إليه أوضاعَها..
قدّمت الحيواناتُ مرافعةً مفصّلةً، وما لقيتْهُ مِن جَوْر بني آدم واعتقادهِم فيها بأنّها عبيدٌ لهم، ومُلْكا يتصرّفون فيه كما يشاؤون.. بعثَ [بيراسْت الحكيم] رسولاً إلى أولئك القوم، ودعاهم إلى حضْرتِه، فذهبتْ منهم طائفةٌ تمثّلهم في المحاكمة.. قال لهم [بيراسْت الحكيم] على لسان تُرْجُمانه: ما الذي جاء بكم إلى بلادنا؟ قال قائلٌ منهم: دعانا ما سَمِعْنا من فضائل الملِك وعدْله، وها نحن أوْلاء بيْن يديكم لتحْكُم بيْننا وبين عبيدنا الآبقين من صنوف البهائم والأنعام. قال الملِك: بيِّنوا ما تريدون! قال زعيمُ الإنس: نقول إنّ هذه البهائم والأنعام، هي عبيدٌ لنا، ونحن أربابُها، لكنّنا نراها إمّا هاربة عاصية، وإمّا مطيعة وهي كارهة منكرة لحقوقنا فيها قال الملك: وما حُجّتُكم يا معشر الإنس فيما زعمتُم لأنفسكم على الحيوان من سلطان؟ قال زعيمُ الإنس: لنا على ذلك دلائل شرعية سمعية، وأخرى عقلية منطقية. وصار زعيمُ الإنس يقيم الحجّةَ تلْو الحجّة، ويذْكر آيات الله ما يؤيّد دعواه، كقوله تعالى: [والأنعام خلقها لكم، فيها دِفْء، ومنافعُ، ومنها تأكلون]؛ وقوله تعالى: [وعليها وعلى الفُلْك تحملون]؛ وقولُه: [والخَيْلُ والبغالُ والحمير لتركبوها وزينة].
توجّه الملِكُ بالسؤال إلى جماعة الحيوان قائلاً: قد سمعتم يا معشر البهائم والأنعام، ما قاله الإنسيُ من آيات القرآن مستدلاّ بها على صِدْق دعواه، فماذا تقولون أنتم في ذلك؟ فأناب الحيوانُ عنْه البغلَ، ليتكلّمَ بلسانه، فقال: [ليس في شيء ممّا قرأ هذا الإنسيُ من آيات القرآن دليلٌ على زعمهِم بأنّهم أربابٌ لنا وبأنّنا عبيدٌ لهم؛ إنّما هي آياتٌ تذكّرهم بما أنعم الله عليهم به؛ قال لهمُ القرآنُ الكريم: (سَخّرْناها لكم) كما جاء فيه في آيات متفرّقة أنّ الله سخَّر لهمُ الشمسَ، والقمرَ والسّحابَ، والرياح؛ أفترى أيّها الملِكُ أنّها قد أصبحتْ بذلك عبيدًا للإنسان؟ وأنّ الناس قد أصبحوا أربابَها، ألا إنّ الله تعالى خلق كلَّ ما في السماوات والأرض، وجعلها مُسخَّرةً بعضُها لبعض، جلْبا للمنفعة، ودفعًا للخطر. ولضيْق الرّقعة التّتمة غدًا إن شاء الله، ومعذرة للقراء الكرام!