قيام دولة أهل الخير: بهذا الخصوص قال (إخوانُ الصَّفا) في إحدى رسائلهم: [وقد ترون أيُّها الإخوان، أيّدكُمُ الله وإيّانا بروح منه، أنّه قد تناهتْ قوّةُ أهل الشّر، وكثرت أفعالُهم في العالم في هذا الزمان، وليس بعد التناهي في الزّيادة إلاّ الانحطاط والنقصان؛ واعْلَموا أنّ دولة أهل الخير، يبدأ أوّلُها من أقوام أخيار، فُضلاء أبرار، يجتمعون في بلد، ويتّفقون على رأيٍ واحد، ودين واحد، ومذهبٍ واحد؛ ويعتقدون بيْنهم عهدًا وميثاقًا، بأنّهم لا يتناحرون، ولا يتخاذلون، ويتعاونون، ولا يتقاعدون عن نصرة بعضهم بعضًا؛ ويكونون كرجل واحد في جميع أمورهم، وكنفسٍ واحدة في جميع تدابيرهم؛ فأبشروا أيّها الإخوان بما أخبرناكم، وثِقوا بالله في نُصْرته لكم إذا بذلْتم جهودَكم، كما وعد الله تعالى: (والّذين جاهدوا فينا لنَهْديهم سُبُلَنا)] والآية من [سورة العنكبوت (69)].
استفحالُ دولة أهل الشر: [واعْلموا أنّ كلّ دولة لها وقتٌ منه تبتدئ، ولها غايةٌ إليها ترتقي، وحدٌّ إليه تنتهي.. وإذا بلغتْ إلى أقصى مدى غاياتها، ومنتهى نهاياتها، أخذتْ في الانحطاط والنّقصان، وبدأ في أهلها الشّؤمُ والخِذْلان، واستُؤْنِفَ في الأخرى القوّةُ والنشاط، والظهورُ والانبساط؛ وجعلَ كلّ يوم يقوى هذا ويزيد، ويضعف ذلك وينقص؛ إلى أن يضمحلّ الأوّلُ المتقدِّم، ويتمكّن الحادثُ المتأخِّر.. فهكذا حُكمُ أهل الزّمان في دولة الخير والشر: فتارةً تكون القوةُ والدولة، وظهورُ الأفعال في العالم لأهل الخير؛ وتارةً تكون القوّة والدولة وظهور الأفعال لأهل الشّر كما ذكر الله جلّ ثناؤُه: (وتلك الأيام نُداولها بيْن النّاس)]..
التعاون الاجتماعي: [اِعْلمْ يا أخي أنّ الحكمة الإلاهية أوجبتْ بأنْ يشتغل جماعةٌ في المجتمع بإحكام الصنائع، وجماعة في التجارات، وجماعة في إحكام البنيان، وجماعة بتدبير السياسات، وجماعة بإحكام العلوم وتعليمها، وجماعة بالخدمة للمجتمع، والسّعي في حوائجهم.. فأمّا ما اصطُلِحوا عليه من الكيل، والوزن، والثّمن، والأجرة، فإنّ ذلك حِكمةٌ وسياسة، ليكون حثّا لهم على الاجتهاد في أعمالهم، وصنائعهم، ومعاونتِهم، حتى يستحقّ كلّ إنسان من الأجرة بحسب اجتهاده في العمل، ونشاطه في الصنائع.. واعْلم أيها الأخ، أنّ هذا الجسد لهذه النفس بمنزلة دارٍ تُسْكَن.. وما دامت هذه النفسُ مع هذا الجسد، مربوطة به إلى الوقت المعلوم، فلابدّ لنا من النظر فيما تصلح به معيشة الحياة، وتُنال به النّجاة، واعْلم أنّ هذيْن الأمريْن لا يجتمعان، ولا يتمّان إلاّ بالمعاونة، وليس شيءٌ أبلغ على المعاونة، من أن تجتمعَ قِوَى الأجساد المتفرّقة وتصيرَ قوّةً واحدةً، وتتّفق تدابيرُ النفوس المؤتلفة، فعندئذ تغْلب كلّ من رامَ غلَبتَها، وتقْهَر كلَّ من خالفها وضادَّها.. وينبغي أن تعلم أيها الأخ، أنه لا يجتمع اثنان على أمرٍ من الأمور، إلاّ ولاجتماعهِما علّةٌ تجمعهما، وسببٌ يحفظها على تلك الحال؛ فمادامت تلك العلّةُ باقية، وذلك السببُ ثابتًا، دامت لهما تلك الحال؛ وإنْ بطُلتْ تلك العِلةُ، وانقطع ذلك السببُ، تفرَّقا بعد اجتماعهما، وتنافرا بعد إِلْفهِما..]..
سلّم الطبيعة: [.. واعلمْ أيّها الأخ أن النّخل، فهو آخر الرتبة النباتية ممّا يلي الحيوانيةَ، وذلك أنّ النخل نباتٌ حيواني، لأنّ بعض أحواله مُبايِن لأحوال النّبات، وإنْ جسمُه نباتًا.. وبيان ذلك أنّ القوة الفاعلة منفصلة عن القوة المنفعلة، والدليل على ذلك أنّ أشخاصَ الفحول منه مباينة لأشخاص الإناث.. واعْلمْ يا أخي بأنّ أوّل مرتبة الحيوان متّصل بآخِر مرتبة النبات، وآخِرُ مرتبة الحيوان متّصل بأول مرتبة الإنسان؛ كما أن أول المرتبة النّباتية متّصلٌ بآخِر المرتبة المعدنية، وأوّل المرتبة المعدنية متصلٌ بالتراب والماء، كما بيّنا قبْل.. فأدْون الحيوان، وأنقصُه، هو الذي ليس له إلاّ حاسّةٌ واحدة فقط، وهو الحلزون، وهي دودةٌ في جوف أنبوبة، ليس لها سمعٌ ولا بصرٌ، ولا ذوقٌ، ولا شمٌّ، لأنّ الحكمة الإلهية من مقتضاها أنْ لا تعطي الحيوان عضوًا لا يحتاج إليه في جذب المنفعة أو دفْع المضرّة.. والرّتَبُ الحيوانية، ممّا يلي رتبة الإنسانية، ليستْ من وجهٍ واحد، ولكنْ من عدّة أوجُه، وذلك أن رتبة الإنسانية لـمّا كانت معدنًا للفضل، وينبوعًا للمناقب، لم يستوعبْها نوعٌ واحدٌ من الحيوان، ولكنْ عدّة أنواع؛ فمنها ما قارب رتبةَ الإنسانية بصورة جسده مثْل القرد؛ ومنها ما قاربها بالأخلاق النفسانية كالفرس في كثير من أخلاقه؛ ومثْل الفيل في ذكائه؛ ومنها الطائر الإنسانيُ أيضا مثْل الببّغاء والهزّاز؛ ونحْوِها من الأطيار الكثيرة الأصوات والألحان والنّغمات، ومنها النّحلُ اللطيف الصّنائع، إلى ما شاكل هذه الأجناس، وذلك أنّه ما مِن حيوان يستعمله الناسُ، ويأنس بهم، إلاّ ولنفسه قُرْبٌ من نفسِ الإنسانية].. وغدًا، سأقترح على القراء الكرام نصّا من رسائل (إخوان الصَّفا).. غدًا لكم عندي مفاجأة سوف تروقكم إن شاء الله، فكونوا في الموعد ولكم كلّ الفضل!