كان القرنُ العاشر للميلاد من أغنى العصور العربية بالمتعارِضات، وأحفلها بالأحداث والمفاجآت؛ وقد تجلّى في منحاه السياسي منتهى الضّعف من ناحية، وغاية القوة من ناحية أخرى؛ وصمد فيه التهتُّكُ والتبذُّل؛ في وجه التعبُّد والزّهد؛ وعاش الاستئثار والطّغيان، إلى جانب الإيثار والتضحية؛ وسار النشاط الديني المحافظ، إلى جانب الجهد الفلسفي الجامح؛ وغبر الجهل المطبق، يطيف بمعاقل العلم الزاهر.. فيه بلغت الخلافةُ من الضعف مبلغا استغلّه الولاةُ الطّامعون، فثاروا على الخليفة، واستقلّوا بولاياتهم (ذكرْنا ذلك في مقالة سابقة) فألّفوا الأحزابَ المتطرفة، وأثاروا الإرهابَ، والحركات العنيفة، وفاز منهم فريقٌ بإعلان خلافة مستقلّة هي خلافة (العُبَيْديين) والجهّال يسمّونهم (الفاطميون)، مع العلم أنه لا صلة لهم بالسيّدة (فاطمة).. وقد نشطت مجدّدا الحركةُ الفكريةُ التي بعثتها حركةُ (المعتزلة)، وذلك بعد أن بطش [المتوكّلُ] برجالها، وقصّ [الأشعريُ] من جوانح تعاليمها، والتقتْ في دُور الأمراء مجالسُ الطرب والعربدة، بحلقات العلوم والآداب.. وبالجملة، فقد ساءتِ النيات، وانحطّتِ الأخلاق، وهوت القِيَم، وفُقِدَ الأمنُ، وغاب الأمان، واشتدّ الفقرُ، وطغى الضّنكُ، وتولّدتْ فيه الفلسفة الكريمة على يد (مَسْكوَيْه)، ونبتتْ في أرجائه الفلسفة الاجتماعيةُ، في نتاج (الفرابي)، وفي رسائل (إخوان الصَّفا)، وفي مراجعَ أخرى تقرأ (الصَّفاء).. فمَن هم (إخوان الصَّفا) يا تُرى؟
هي جمعيةٌ أسّسها (إخوانُ الصَّفا)، وكانت جمعيةً سِرّية، ولذلك تعذّرتْ معرفةُ زمان ظهورها، وملابسات تكوينها في أواسط القرن العاشر للميلاد.. أمّا مركزُ الجمعية، فقد كان، كما أشار (أبو حيّان التوحيدي) في مدينة (البصرة)، وهي مدينة عرفتْ نشأةَ عددٍ من الحركات السياسية، والعلمية، والفكرية، ومن حديث (أبي حيّان التوحيدي) أنّ الجمعيةَ استكملتْ نظامَها سنة (983)، وأنّ رسائلهم كانت قد دُوِّنَت، واستُنْسِخت، وانتشرت في أسواق الكتب، وتداولتْها أيدي القرّاء.. في هذه الفترة الدقيقة تألّفتْ هذه الجمعيةُ وهي الأولى من نوعها لنشر المعرفة؛ فقد رأى بعضُ المفكّرين، المهتمّين اهتماما جدّيا في تجديد الإسلام، أنّ علماءَ الدّين قد تمسّكوا بالقشور دون اللُّباب تماما كما هو شأنهم اليوم؛ وأنّ الأغنياء قد انهمكوا في اللّذات، والشهوات تماما كما هو الحال اليوم؛ وأن الفقراء قد تَردَّوا في تعصُّبهم الأعمى، تماما كما نلاحظه الآن؛ فتألّفتْ هذه الجمعيةُ لإصلاح الناس، ووقْفِ تردّي المسلمين في الجهالة، والتّعصّب، وأُطلِق عليها اسم (إخوان الصَّفا)..
من شروط الانتماء إليها أن يكون العضوُ ذا أخلاق حسنة، وسيرة طيّبة؛ وكان الأعضاءُ يعْقدون اجتماعاتِهم بهدوء في منزل رئيس الجمعية وهو (زيْد بنُ رِفاعة)، ويبحثون الموضوعات الفلسفية بروح طيّبة، وبصدر رحب، وقد أسّسوا فروعًا في كل مدينة من مدن الخلافة، وفي كل مكان، استطاعوا أن يجدوا فيه نخبةً من المفكّرين الرّاغبين في العمل بمقتضى طريقتهم العلمية والمؤهّلين لذلك......
وبنتيجة جهودهم، قدّموا للعالم بأسره ملخّصا عامّا لعلوم العصر في رسائل مستقلّة عُرِفتْ بـ(رسائل إخوان الصَّفا)؛ وتضمّنتْ شتى العلوم كالرّياضيات، بما فيها علْم الفلك والجغرافية الطّبيعية، والموسيقى، والميكانيكيات، والفيزياء، بما فيها الكيمياء، وعلم النجوم، والجيولوجيا، والبيولوجيا، والفسيولوجيا، وعلم النّبات، والحيوان، والمنطق، وقواعد اللغة، والأخلاق، والبعْث والنُّشور؛ وخلاصة القول، إنهم ألّفوا موسوعةً شعبية تحْوي سائر أنواع العلوم، والفلسفة المعروفة في ذلك العصر.. وهاكَ بعضًا من مبادئهم، ومواقفهم:
من بعض الأغراض التي نشدوا تحقيقها هو أنهم قالوا: [إنّ الشريعةَ قد تدنّستْ بالجهالات، واختلطتْ بالضّلالات، ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلاّ بالفلسفة].. وبخصوص الدولة قالوا: [وقد ترون أيّها الإخوان، أنه قد تناهتْ قوّةُ أهل الشر.. وليس بعد التناهي في الزيادة إلاّ الانحطاط والنّقصان.. واعلموا أنّ دولةَ أهل الخير، يبدأ أوّلُها من أقوام أخيار فضلاء، يجتمعون في بلد، ويتّفقون على رأيٍ واحد، ودين واحد، ومذهب واحد.. ويكونون كرجل واحد في جميع أمورهم، وكنفس واحدة في جميع تدابيرهم].. وبخصوص نشأة الطبيعة قالوا: [إنّ الأمور الطبيعية أُحْدِثتْ، وأُبدِعتْ على تدريج ممرّ الدّهور والأزمان، وذلك أنّ الهَيُولي الكُلّي، أعني الجسم المطلق، قد أتى عليه دهرٌ طويلٌ إلى أن تمخّض، وتميّز منه اللطيف والكثيف، وإلى أن قبْل الأشكال الفلَكية.. وإلى أن تميّزت الأركانُ الأربعةُ، وترتّبتْ مراتبُها، وانتظمتْ نظامَها]. ويؤيّدون ما ذهبوا إليه بآيتيْن يفسّرون الواحدةَ بالأخرى؛ الأولى هي: [خلقَ السّماواتِ والأرض في ستّة أيّام]؛ والثانية: [وإنْ يومًا عند ربّكَ كألْف سنة ممّا تَعُدُّون]؛ وعلى هذا الحساب؛ فقد استغرق خلْقُ الطبيعة ستة آلاف سنة.. وبخصوص المجتمع قالوا: [اِعْلمْ يا أخي؛ بأنّ الإنسانَ لا يقدر أن يعيش وحْده إلاّ عيشًا نَكِدًا؛ لأنه محتاجٌ في طلب العيش إلى إحكام صنائعَ شتى؛ ولا يمكن الإنسانُ الواحد أن يبلُغَها كلّها، لأنّ العمْر قصيرٌ، والصنائع كثيرة؛ فمِن أجل هذا، اجتمع في كل مدينة أو قرية أناسٌ كثيرون لمعاونة بعْضهم بعضًا].. وفي الرّوحانيات، قالوا: [إنّ الأنبياء كلّهم، على تباعُد الأزمان فيما بينهم، ومع اختلاف لغاتهم، وموضوعات شرائعهم، وافتنان سُنَنِهم، متّفقون على رأي واحد، ودين واحد، ومقصدٍ واحد، وجزاء الأعمال فيها، إنْ خيرًا فخير، وإنْ شرّا فشرّ].. فإلى الغد، ودمْتم بألف خير!