ليستْ ثورةُ الفكر كثورة السّياسة، فيها قعْقعاتُ المدافع، وأزيزُ الطائرات، وهديرُ المصفّحات، أو صياحٌ يشابه صياحَ الباعة في الأسواق خلال مواسم الانتخابات، حيث مرشّحٌ يَعْرض سلعتَه، ويقدّم صورًا خادعةً حوْل المستقبل الذي سيحقّقه لزبونه وهو الناخب، يسانده في ذلك صياحٌ يهزّ أمواجَ الصوت والصورة في أجهزة الإذاعة والتلفزة، ثم ينتهي (الكارْنڤال) الانتخابي، ويحلّ (كارنڤالٌ) آخر، ولا شيءَ تحقّقَ، أو تغيّرَ في دنيا الواقع، غيْر تبدُّل السّحنات، وأخرى بقيتْ في مكانها، وأخرى بدّلتِ المساحيق وموادّ التجميل، ومؤسّسات تعانق السماء، وليس لها من المؤسسات إلاّ الشكل الظاهري، وهي فارغة من الداخل، اللّهم ما كان من المحصول الذابل لسنوات مضت، ثم انقضتْ، تقوم بتحيينه كائناتٌ ملّها الشعبُ لألفاظ أضناه سماعُها، لفرْط تكرارها واجترارها.
فالثورة الفكرية تبدأ من الناس، من مرحلة الصّفر، فلا تشرف عليها حكومةٌ، أو وزارةٌ، أو برلمان، بل يعتني بها (قساوسةٌ ورهبان) في (كنائس الفكر والثقافة) فيغْلب أن تجيءَ هذه الثورةُ الفكرية كقطرات الماء تنصبّ على الصخرة الصّماء، فتحسبها واهنةً بلا أثر، وإذا بالأيام تمضي، والزمن يجري، فإذا بالصخر الأصمّ قد تفسّخَ، وأُرْهِفَ السمع، ليتلقّى الرسالةَ، والعجب هو أن ثورات الفكر بصوتها الخافت الهادئ، هي التي تحرّك النفوس على مدى الزمن القصير أو الطويل، فيحصل التغيير الجذري في دنيا السياسة والاجتماع.. لكنْ ما هو الفكر أولاً الذي يغيّر الواقعَ، ويطوّر الأوضاعَ نحو الأحسن، ويخْلق المواطنَ الإنسان، بدل المواطن البشر، في أيّ بلدٍ من البلدان؟ الفكر هو إعمالُ العقل في الأشياء للوصول إلى معرفتها، قبْل البدء بتغييرها، ويُطْلَق بالمعنى العام على كل ظاهرة من ظواهر الحياة العقلية، وهو مرادفٌ للنظر العقلي (Réflexion)؛ والتأمُّل (Médilation)؛ ومقابل للحدْس (Intuition).. يقول [ديكارت] في كتاب (التأمّلات): [ما هو الفكر؟ إنه الشيء الذي يَشكّ، ويفهم، ويدرك، ويثْبت، ويريد، أوْ لا يريد، ويتخيّل، ويحسّ]؛ ولكنّ فلاسفة آخرين، يطلقون لفظ الفكر على الأفعال العقلية دون غيرها، ولا يطلقونها مثل [ديكارت] على حالات انفعالية أو إرادية، إلاّ من جهة ما هي حالاتٌ تدركها النّفسُ بإعمال الفكر فيها.. لكنّ الفكر عند [كانط]، هو القوة الانتقادية، فيما يذهب [مين دوبيران] إلى أنّ الفكر، هو القوّة الدِّراكة التي تردّ الكثرةَ إلى الوحدة..
وبيْن الفكر واللغة علاقةٌ وثيقةٌ، لأن الفكر يبحث في اللغة عن صورة تعبّر عنه، واللغة تبحث في الفكر عن فعل عقلي معادلٍ لها، ومن العبث فصلُ الأفكار عن الألفاظ المعبِّرة عنها فصلاً تامًا، لأنّ الفكر، والتعبير يسيران جنبًا إلى جنب.. وجملة القول، أنّ الفكرَ يُطلَق على الفعل الذي تقوم به النفس عند حركتها في المعقولات نفسها، فإذا أُطلِق على فعل النفس، دلّ على حركتها الذاتية، وهي النظرُ والتأمّل؛ وإذا أُطلِق على المعقولات، دلّ على الموضوع الذي تفكّرُ فيه النفسُ، وهو مرادفٌ للفكرة، ومنه قولهم: الفكر الديني، والفكر السياسي، وقسْ على ذلك.. و(الفكري) هو المنسوب إلى الفكر: تقول: الحياة الفكرية، والعمل الفكري.. وهنا وصلنا إلى موضوع المقالة المحوري، وهو: هل في تراثنا ثوراتٌ فكرية مكتومة، نخشى أن يطول بها الصمتُ، فإذا هي كالعدم الذي لم يكن، ولا هو كائن، أو يكون؛ فما على الكاتبين في هذا البلد، إلاّ أن ينفضوا الغبارَ عن صفحاتها عساها تفعل في الناس فِعْلَها؛ ففي تراثنا محطاتٌ مشرقة تُحتذى، لكنّها منسية لبؤْس الثقافة..
فالثورة الفكرية هنا، هي أن تبدأ مع الناس من مرحلة الصفر، فتصدمهم بما لا يتوقّعونه، قائلا لهم إنّ الإنسانَ وصنوف الحيوان سواسية، حتى إذا ما بهتوا لقولك، ثم زالتْ عنهم الدهشة بعد حين، كان هيّنًا عليك أن تقنعهم ما قصدتَه، إذِ الفرقُ بعيد في حياتنا العملية بين إنسان وإنسان، وليكتبْ أُولو الأمر ما شاؤوا في قوانينهم؛ وليقرّروا ما شاؤوا في سياستهم؛ وليُعْلِنوا ما أرادوا من مساواة كاذبة بين المواطنين في الحقوق وفي الواجبات؛ وليتغنّوا بديموقراطية كاذبة وانتخابات مغشوشة عبر إعلام مضلِّل وصحافة مرتزقة.. لنبدأ إذن من مرحلة الصفر، فنزعم بأنّ الإنسانَ عندهم وصنوف الحيوان سواسية.. هل يوجد مَن قال بهذا، يا هذا؟ الجواب: نعم؛ قال بذلك [إخوانُ الصَّفا]، وهم جزء من تراثنا الفكري المهجور، في رسائلهم؛ تُرَى هل قالوه من ثورة فكرية، وتغيير للواقع، وبثٍّ للوعي في أوساط الناس؟ هل نحن بحاجة اليوم، إلى هذا الفكر الصادم الذي يوقظ المواطنَ من سباته الفكري؟ نعم؛ قال ذلك [إخوانُ الصَّفا]. وكأنّهم قالوه لنا اليوم، ولكن كيف قالوه يا ترى؟ دَعْنا أوّلا نعرّف القرّاء الكرام بـ[جمعية إخوان الصفا]، وما أحوجنا اليوم إلى جمعيات مشابهة، بدل جمعيات تدافع عن الشذوذ، والخلاعة، والعُرْي، والمجرمين، وأخرى تنادي بالتفاهات، فمن هم (إخوان الصَّفا)؟