قالها كبير الشعراء ذات يوم والجاهلية لازالت تضرب أطنابها في الناس ولم نكن نعرف أننا سنعيش جاهلية أسوأ. قالها العنترة العبسي الشهير وتركها لمحبي اللغة العربية خالدة لا تموت أبدا "أَغْشى الوَغَى وأَعِفُّ عِنْد المَغْنَـمِ". وتذكرناها هاته الأيام ونحن نسمع تلاطم أمواج المغانم، بين التقاعد المريح وبين الممتلكات الشخصية وبين حرج الكتائب الإلكترونية إياها وهي ترى الزعيم العالمي يرفل في بحبوحة العيش، لكن يتباكى أمام الكاميرات قائلا "ماعنديش آخوتي ماعنديش".
تذكرنا العفة عند المغنم التي كانت لدى القدماء الكبار، والتي لازالت لدى بعض المجايلين، ووجدنا من يذكرنا بأن اليوسفي الكبير بالمقابل لم يأخذ ما أخذه التابعون، وتابعو التابعين بعده، وأنه اكتفى فعلا بالنزر اليسير مما تتيحه له المكانة التي هو فيها لأن شبعا داخليا قديما سكنه ومنعه من أن يسطو على ماليس له، ومنعه من السقوط في التناقض بين المصرح به من كبير الكلام وبين مايقوم به المرء من ساقط الفعل وصغير التطبيق
الحكاية ليست حكاية أموال أو عد ونقد أو تركيز مرضي من جهة معينة على مايتوفر لهذا ومالايتوفر لذاك. فالتفضيل في الرزق في نهاية المطاف مسألة طبيعية، والفقر صنو الغنى ولولا هذا لماكان الآخر، والعكس صحيح أيضا. الحكاية حكاية هذا الجوع الذي لايريد الذهاب والذي يتقن التسلل في غفلة منا إلى مجموعة من "الملاهيط" كلفتهم الصدف العمياء بتدبير أمورنا ووجدنا أنفسنا اليوم بعد الآخر، والشهر بعد الآخر، والسنة بعد الأخرى مضطرين للنظر فيما يفعلونه برزق الناس العام
المغرب ليس فقيرا لأنه فقير. المغرب فقير لأن كثيرا من المسؤولين عندما يحلون في مناصب المسؤولية ينسون الفقراء ويتذكرون فقرهم الداخلي وحدهم ويشرعون في الاغتناء
يسميهم الناس أغنياء الأزمة" مادمنا لسنا في حرب، ويسمونهم الأغنياء الجدد، ويلاحظون عليهم أنهم رغم كل محاولات التأقلم مع الوضع الجديد لايستطيعون نسيان الفقر القديم، ولا يستطيعون التخلص من حالة النهم الأولى، لذلك تفضحهم أعينهم وتصرفاتهم وكثير من مقالب الحياة
وواحدة منها هي أن تفرض على الموظفين المساكين البسطاء الاقتصطاع تلو الاقتطاع، وأن تمضي ولايتك الحكومية كلها شاهرا على الناس سيف إصلاح التقاعد وصارخا "إن لم نصلحه اليوم فإن الأجيال القادمة ستعاني ولن تجد الدولة ما تؤدي به ثمن تقاعد الوافدين الجدد على الشيخوخة"، وبعد ذلك نكتشف أن "أطباق الهركمة" التي تعشقها لا تترك لك متنفسا للتفكير السليم سوى أن تلجأ إلى الفيسبوك تتضرع له أن ينقذك من الفخ السيء الذي وقعت فيه أمام الناس لكي تشرح لهم تقاعدك وأنت المكتفي غير المحتاج لعديد الأشياء...
ومع ذلك ليس الرجل وحيدا في الحكاية. هي علة قديمة وداء أقدم ووباء شامل ضرب هاته النخبة الكاذبة حتى أصبحنا نبحث عن الناجين من هذه المصيبة "بالريق الناشف". رأينا بعضهم وهم قلة قليلة يدخلون نظيفي الأيادي إلى المسؤولية العامة، ويأخذون مايتيح لهم العيش فقط، ويخدمون الناس بنية صافية وقلب أصفى وبضمير يريد فعلا أن يحسن مايقوم به، ويخرجون وليس لديهم إلا مادخلوا به أول مرة، بل ربما أقل...
طبعا بعضهم مات وهو محتاج، وبعضهم الآخر كان مضطرا للاشتغال فيما بعد شغلين أوأكثر لكي يرتق ثقوب اليومي، ولكي يوفر للأقرباء مايستطيعون به تدبر أمر الحياة، لكن الاحترام لهم بقي على الشكل ذاته، والاستثناء تم تسجيله باسمهم أنهم لم ينضافوا إلى سلسلة سراق هذا البلد وهذا الشعب
الكارثة هي أن الحكاية لاتقتصر على السياسة أو التدبير المحلي للمدن والقرى أو المسؤوليات الأخرى، بل هي تشمل أي مكان فيه قليل من "الصرف العام أو العمومي" من الرياضة إلى الثقافة مرورا بما تريد من المجالات. والحكاية لاتقتصر على هاته الطبقة أو تلك ولا هذا الحزب أو ذاك وعلى هذا التيار أو الآخر، بل هي وباء عام عرف طريقه وفق شعار انتهازي خطير هو شعار "الهمزة"، أو "الهوتة" أو "البريكول" إلىالعددالأكبرمنالمغاربة..
لعل السؤال الذي يطرح نفسه هو التالي : من أين أتى هذا الجوع إلى الناس؟ من أين أتت هاته الوحشية المالية حتى أصبحت تشرعن أي شيء وفي سبيلها تهون كل الأشياء؟ ولم عمت الطبقات كلها ؟ ومتى فقدنا بوصلة الاكتفاء المغربي الشهيرة التي كانت تحمل معنى القناعة وأصبحنا نتنافس بهذا الشكل المقيت في الاختلاس حد الموت وترك مااختلسناه للآخرين؟
الحكاية مرتبطة بالتربية العامة، وعندما أرى كبارا ينصحون لصوصنا الصغار من خاطفي الهواتف النقالة التافهة أو حقائب اليد الفارغة التي تحملها الفقيرات، أجد صعوبة في عدم التذكير أن لصوصا أكبر من هؤلاء الصغار المساكين علموا الجيل الجديد اللعبة، وجعلوه يحفظ عن ظهر قلب الترنيمة والميلوديا، ويتقن العزف على وتر هاته الرغبة السريعة في التوفر على الأشياء، والنفور التام من العمل أو بذل الجهد أو الانتظار زمنا طويلا قبل الوصول إلى مايريده
عباراتنا الكبرى ونحن نتحدث في التلفزيونات عن التربية ومنظومة القيم والأخلاق وما إليه تتهاوى بشكل سريع وسهل ويسير عندما نرسب في أول اختبار مثل هذا أي اختبار التطبيق. يرمقنا الصغار شزرا ويقولون وهم يحركون الرؤوس في كل الاتجاهات "ياودي ياودي"، ويحفظون الدرس جيدا..
يقولون لأنفسهم إن سلسالا "ماجدا" ممن سبقوهم عمدوا إلى وسائل غير نظيفة كثيرا للوصول، إذن الحكاية واضحة، والطريق مرسومة ولا بأس من تقليد من سبقوا لأجل الوصول إلى ماوصلوا إليه أو التفوق عليهم بفضل التقنيات الحديثة و"تحراميات" الجديد وبقية التطورات
لعلنا نرسم لهم الطريق دون أن ندري لكي يسيروا بعدنا على طريق الانتهازية والوصولية، ونحن نعتقد أننا نربيهم حسن التربية. لعلنا نعلمهم فقط أن يكونوا نعم التلاميذ للأستاذ المعجزة الذي يحتال ويحتال ويحتال وعندما يتم ضبطه يبكي كثيرا أمام الكاميرا، ويمسح دموعه في الخفاء ويعد ماجمعه من نقوذ ويختفي
لعلنا في نهاية المطاف نلقنهم الدرس الأسوأ، ثم ننتظر منهم في المقابل أن يقدموا لنا أجمل الوجوه
ماأبشع تناقضاتنا حين نرسب في أولى الاختبارات ونتوهم دوما أننا ناجحون.
المختار لغزيوي