أ/ في شأن إنهاء تجربة حكومة التناوب التوافقية:
يمكن القول إن السياقات التاريخية والسياسية التي تمخضت عنها حكومة التناوب التوافقية سنة 1998 كانت فرصة ملائمة لإنجاز انتقال ديمقراطي حقيقي. كما أنه وبالرغم من كل الانتقادات والمؤاخذات التي وجهت لها على كونها انتصرت لمنطق التوافقات وليس التعاقدات الملزمة للدولة والمجتمع، عبر دستور ديمقراطي انتقالي، إلا أنها كذلك اتسمت ببعض الإيجابيات التي أنعشت آمال الكثير من المغاربة في الإصلاح السياسي والاقتصادي، وتخليق الحياة العامة. لكن النخب الجديدة المتحكمة في دوائر صنع القرار لم تكن مستعدة لإحداث التغيير المطلوب، خاصة في غياب ما يلزمها دستوريا ولا قانونيا، فعمدت إلى الإجهاز على حكومة التناوب التوافقية كأول مؤشر سلبي في اختبار النوايا، وإفراغ ما طرحته هذه الحكومة من مشاريع اصلاحية من مضامينها، وتعيين وزير أول من التكنوقراط في انتظار تهييء المولود السياسي الجديد. وذلك رغم أن الحزب الذي يرأسه الوزير الأول آنذاك كان قد تصدر الانتخابات التشريعية لسنة 2002، وهو ما يمكن اعتباره كأول انقلاب من طرف النخبة الجديدة على المنهجية الديمقراطية، مؤذنة بعودة المنهجية السابقة في تدبير شؤون الحكم والسلطة، لكن هذه المرة بمنطق القطع مع أحزاب الحركة الوطنية التي شكلت عنصرا أساسيا في تاريخ الممارسة السياسية لمغرب ما بعد الاستقلال، وتهميش دورها التاريخي الذي انتهى بالنسبة لها مع انتقال العرش إلى ملك البلاد الجديد محمد السادس، وهو ما يمكن اعتباره خطأ غير محسوب العواقب، خاصة وأن هذه القوى ورغم ما يمكن أن يسجله المجتمع عليها من تقصير في إنجاز عملية الانتقال إلى الديمقراطية، بعد أن أضاعت على الشعب المغربي فرصا تاريخية كثيرة، إلا أنها كانت تتمتع بالحد الأدنى من الغيرة على الوطن ، كما ان ولائها للعرش والملك ،رغم الصراع الذي طبع علاقتها به في محطات تاريخية معينة، لم يكن موضع الشك والتخمين.
ب/ في شأن العدالة الانتقالية:
نعلم جيدا أن هذا الورش لم يكن مبرمجا من داخل حكومة التناوب التوافقية، لكن نعرف كذلك أن هذا الورش كان قد قطعت فيه وعود كثيرة من أعلى سلطة في الدولة ليشكل تتويجا لمجهودات المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، وذلك بمشاركة فعالة من طرف الكثير من الفعاليات اليسارية والتقدمية، ومن ضمنها تلك المحسوبة على الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي، والتي اعتقدت عن حسن نية بالعهد الجديد وأنها فرصة تاريخية للانتقال إلى الديمقراطية بما تعنيه من قطع مع ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، ومقدمة للتأسيس الفعلي لدولة الحق والقانون.. في حين اعتبرها رجالات الدولة الجدد على كونها مناسبة للقطع مع الإرث الثقيل في مجال الحقوق والحريات الذي ارتبط بالمرحلة السابقة، وتبييضا لصفحة العهد الجديد. وبما أن الأهداف لم تكن نفسها فقد تم إفراغ هذه التجربة من محتواها ابتداء يوم تأسيسها في يناير 2003 حتى الإعلان عن توصياتها النهائية التي بقيت حبيسة الرفوف لما يقارب الخمس سنوات. قبل أن تتحول إلى نصوص جامدة في دستور 2011 بعد انتفاضة 20 فبراير من نفس السنة، وليبدأ معها فصل جديد من فصول الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان، سواء مع نشطاء هذه الحركة أو مع نشطاء الحراك الشعبي بالريف وباقي الوطن لاحقا، وهو ما يؤشر على غياب إرادة الإصلاح والتغيير عند النخبة الجديدة ويدفعنا أكثر للتساؤل حول جدوى إحداث هيأة الإنصاف والمصالحة إن لم تكن مقترنة بالانتقال إلى نظام حكم ديمقراطي كضمانة لعدم التكرار .
ت/النخب وتدبيرها للشأن الانتخابي:
صحيح أن الانتخابات هي من العناصر المؤثثة للعملية الديمقراطية شريطة أن تكون حرة ونزيهة، وتتسم بالتنافسية بين الفرقاء السياسيين على أساس البرامج. هذا في الوقت الذي على الدولة أن تقف موقف الحياد والمراقب لضامن نزاهتها. لكن عندما نستحضر التجارب الانتخابية السابقة وما اتسمت به من تدخل للدولة من أجل التأثير في نتائجها لصالح حزب الأصالة والمعاصرة، وكذلك ما يطبخ الآن من سيناريوهات في الغرف المغلقة للانتخابات المقبلة ،التي يبدو أن النخب الحاكمة الجديدة قد حسمت أمرها بالرجوع إلى التركة القديمة لعهد الملك الراحل الحسن الثاني، بمنح الصدارة لحزب الأحرار في الاستحقاقات التشريعية لسنة 2021 وذلك في إشارة واضحة لفشل الرهان على حزب الأصالة والمعاصرة الذي تأسس بإيعاز منها بعد فشله في تصدر نتائج الانتخابات التشريعية السابقة لسنة 2016، والذي يعكس فشلا ذريعا لطريقة تفكير النخبة السياسية الحاكمة، وليس فقط لحزب الأصالة والمعاصرة الذي وقع كل اللوم عليه، وذلك في إشارة واضحة على نيتها الاستمرار في نفس النهج القديم، وعلى عزمها التدخل في شان الاستحقاقات التشريعية المقبلة ،متناسية ان تدبير الشأن السياسي لا يمكن اختزاله في العملية الانتخابية أو وما تستلزمه من مكائد لضمان تحكمها في المؤسسات حسب فهمها التقليدي للممارسة السياسية. وانها بفهمها هذا، واستمرارها على هذا النهج و رهانها عليه، ستفشل حيث فشلت مع حزب الأصالة والمعاصرة. وأن حزب العدالة والتنمية ومعها باقي أطياف حركات الإسلام السياسي ستتصدر من جديد أي استحقاق انتخابي مستقبلي، ليس لكونها تحظى بثقة عموم الشعب، او لنجاعة برامجها من داخل مسؤوليتها الحكومية، بل لثبات قاعدتها الانتخابية التي تزداد توسعا من خلال تحكمها في مؤسسات الحقل الديني، ومؤسسات اجتماعية أخرى، في مقابل التدني المضطرد لنسب المشاركة الشعبية في الانتخابات التي فقدت جدواها عند غالبية الشعب المغربي الذي فقد الثقة في الدولة والأحزاب والمؤسسات. وبالتالي كان على الممارس للسياسة في الوضع الحالي من النخب المتحكمة في دوائر صنع القرار، ان يعالج الأسباب الحقيقية الكامنة وراء فقدان ثقة المجتمع من العملية السياسية، عبر إطلاق النقاشات العمومية حول الاوراش الكبرى التي تهم الشعب المغربي في أفق إصلاحات سياسية ودستورية تؤسس لانتقال ديمقراطي حقيقي، والعمل على إطلاق سراح نشطاء الحراك الشعبي بالريف وجرادة وزاكورة وما تبقي من معتقلي حركة 20 فبراير. أما الاستمرار في المقارب التقليدية لتدبير أمور الدولة والمجتمع، فلن يزيد الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية إلا تأزما وفي الأزمة تنتعش كل أشكال التطرف ويتوسع مجال فعل حركات الإسلام السياسي التي يبدو لي أنها ستتصدر المشهد السياسي في المرحلة المقبلة.
د.عبد الوهاب تدمري