ما كنتُ أودُّ الخوضَ في هذا الموضوع، لولا تعاطي أقلام معه بشكل مكثّف وممّا حفزني أكثر للخوض فيه، هو حلقةٌ خصّصتْها له قناةٌ وطنية أمسيةَ يوم الجمعة (18 يناير 2019)، والأصل فيه هو برلمانية، وعضوةٌ في حزب (العدالة والتنمية) التي خلعتِ الحجاب في (فرنسا)، وبدتْ سيقانُها عاريةً، فتحوّلتْ إلى ما يُطْلَق عليه (امرأة حاسِرة)؛ لكنْ في المقالات الصّحفية، وخلال الحلقة التلفزية، تمّ الخلطُ بيْن لفظتيْن وهما: (الحياة الخاصّة، والحياة العامّة) واستُعمِلتا في النقاش وكأنهما واضحتان، ومحدّدتان من حيث المعنى والمفهوم؛ وتحديدُ المفاهيم طالما نادى به الفلاسفةُ والمفكّرون، حتى لا نقع في شراك الغموض، وفوضى (شبْه الألفاظ)؛ فلو كنتُ بصدد امتحان حوْل (الخاص والعام) لنلتُ صفرًا، ولكانت ملاحظة الأستاذ الذي صحّح ورقة الامتحان هي: (لمْ تحدِّدْ مفهومَي الحياة الخاصة، والحياة العامة، قبل التحليل)؛ وهذا ما جعل حديثَ المشاركين في الحلقة بعيدة عن المنهجية، والوضوح.. فالسيدة التي كشفتْ عن شعرها، وعرّتْ عن سيقانِها، لم يكُنْ فعلُها من قبيل (الحياة الخاصة، ولا حتى من قبيل الحياة العامّة)؛ فما هو الخاص والعام في منطق اللغة المفهومة؟
الخاصّ نقيض العامّ؛ خصّ الشيء خصوصًا نقيضُ عمَّ، فهو يشمل نوعًا واحدًا أو فردًا واحدًا أو عددًا محدودًا من الأفراد، والمقصود به الانفراد ليتميز عن المشترَك، وعلى ذلك يكون خاصّا بشخص واحد أو يكون خاصّا بعدة أشخاص؛ ويقال هذه حياتُه الخاصة أي لا يشاركه ولا يطّلع عليها غيرُه؛ فهي إذن تخصّه، ولا مجال لمشاركته فيها بأيّ وجْه من الأوجه لخصوصيتها وحُرْمتِها، وتفرُّده بها، وهي غالبا ما تعني حياة الفرد في خلوتِه، وهو ما يريد الفضوليون اكتشافَه من ثُقَبِ المفتاح، على حدّ تعبير (سارتر) في كتابه (الوجود والعدم)؛ فالحياةُ الخاصّة عند صاحبها حرم له قداسة، ويريد له أن يكون من أعيُن الناس في خفاء عكْس الحياة العامة التي يتخذها الآخرُ كموضوع، ممّا يجعل الحريةَ مهدّدة، لأن الآخر ينظر إليك باستمرار، ويحدّ من حرّيتك، وهو ما عناه (سارتر) بعبارته: [الجحيم هي الغير]؛ قد يظهر الإنسانُ جادّا أمام الناس، لا يعرف إلى الابتسامة الخفيفة سبيلاً، فإذا هو في حياته الخاصة مهذار، عربيدٌ؛ فإذا كانت الصفحة الجادّة التي يبديها للناس هي من حقّ المجتمع عليه، فمن واجب المجتمع بعد ذلك ألاّ يتسلّل، ولو بطريق غير مباشر، إلى ما ينشط به مستورًا وراء الجدران، ما دام هذا الذي ينشط به في الخفاء، أمرًا خاصّا به، ولا يتّصل بأحد سواه.. أَبَعْد هذا الذي قلناه، والمثال الذي سقناه، هل يجوز أن نعتبرَ كشْفَ السيدة لشَعْرها وساقها من قبيل الحياة الخاصة؟ الجواب: كلاَّ! فالمشكل في عدم تحديد المفهوم فقط..
كان [عمر بن الخطّاب] رضي الله عنه، يتفقّد أحوال الرعية ليلاً، فسمع هرجًا ومَرَجًا في أحد البيوتات، فاسترق السمعَ، فأدرك أن رجالاً كانوا يعاقرون الخمْرَ في خَلْوتهم، فتسلّق الجدار، وكسّر الباب، ودخل عليهم في جلْستهم الخَمْرية، فأخبرهم بأنهم يقترفون إثْمًا، ونهَرهُم، وأراد أن يسُوقَهم إلى السجن؛ فقال أحدُ السُّكارى لعُمَر: [يا أمير المؤمنين، نحن أتينا إثمًا واحدًا، فأمّا أنت فلقد أتيتَ ثلاثة]؛ قال (عُمَر): [وما هي هذه الآثامُ الثلاثة التي أتيتُها يا هذا؟]؛ قال السّكير: [قال تعالى في كتابه العزيز: (ولا تَجَسَّسوا)، وأنت يا أمير المؤمنين تجسّستَ علينا.. وقال تعالى: (اِئْتُوا البيوتَ من أبوابها) وأنت تسلّقْتَ الجدارَ.. وقال تعالى: (لا تدخلوا البيوتَ حتى يُؤْذَن لكم)، وأنت كسّرتَ الباب]؛ فأعاد (عُمَر) سيفَه إلى غِمْده، وهو الذي لا يلين في الحق، ومضى إلى حال سبيله.. وهذا مشهدٌ تنطبق عليه عبارةُ (الحياة الخاصّة)..
قال رسول الله، وهو يحدّث الناسَ في مسجده: [لا يجوز لرجل أوِ امرأة أن يقولا ما يكونه في خَلْوَتِهما؛ فتلك أمورٌ يجب ستْرُها]؛ قالت امرأةٌ اسمُها (زيْنَب)" [إنّهم ليقُولون يا رسولَ الله]؛ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: [إنّ من يفْعل، فهو كمثَل شيطان غَشِيَ شيطانَةً، والناس تنظر]؛ هذا يبرز ما للحياة الخاصة من حُرْمة في الإسلام.. فما فعلتْه البرلمانيةُ لا يمكن أن يُعْتَبَر من قبيل الحياة الخاصّة كما يتوهّم بعضُهم.. فالحياة الخاصة تنسحب على من يطيق رمضانَ مثلاً، أو يعاقر الخمرَ بعد الإفطار، أو يمارس الشذوذَ، وغيرها من الموبقات التي تتمّ في الخلوة، ولا يجوز لأحد اقتحامُ هذه الحياة الخاصة بأية ذريعة من الذرائع؛ وقال في شأنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَن ابتُليَ منكم، فليَسْتَتِر]؛ فلم يُوصِ النبيُّ الكريم بالتجسس، أو بحُكم أو حَدٍّ في شأنها، وإنّما أوصى بالسِّتر فقط.. فحالةُ البرلمانية ليست (حياة خاصّة) وإنما اختيارٌ حرٌّ، وموقفٌ، اتّخذتْه مع نفسها؛ نعم؛ قد يكون اختيارًا مخالفا لمبادئ حزبها، ومذموما من قِبَل شرائح اجتماعية، لكنه، أبدًا، لا يمكن تصنيفُه كعمل يدْخُل ضمْن الحياة الخاصة؛ ووصْفه بالحياة الخاصة فيه جهْل، وتعسُّف، وتحريفٌ للّغة ومنطِقها..