لقد ذكرتُ لكَ سيّدي القارئ الكريم، الأصل في خوضي في هذا الموضوع الذي كان من ورائه حلقةٌ من حلقات [مباشرةً معكم] أمسية الأربعاء (16 يناير 2019) على شاشة إحدى القنوات التلفزية الوطنية، وكان موضوع الحلقة يدور حول الأطبّاء، والمستشفيات شفاها الله من أمراضها المزمنة،!.. واليوم، سأذكر سبب كراهيتي لبعض الأطبّاء، وسأركّز على ما كنتُ عليه شاهدَ عيان، ولن أذكر إطلاقًا ما حكاه لي ضحايا وقعوا بيْن أيدي جلاّدينَ تنعدم فيهم الرحمة لتخشُّب أكبادهم، وهذه هي أصعب مقالة كتبتُها في حياتي، بعد إنشاء كتبتُه في نفس الموضوع، وأنا تلميذ بالمدرسة، حتى لإنّ الأستاذ الفرنسي أصيبَ بالذّهول وهو يصحّح ذلك الإنشاء، ذلك أنّ التلاميذ تخيّلوا أحداثًا، أمّا أنا، فرويتُ حدثًا صادقًا عشتُه بحذافيره، ولن أنساه مهما استطال العمرُ بي..
بعْد ولادتي مباشرةً، أُصيبتْ أمّي بآلام في ثَدْيَيْها، ولم تقدرْ على إرضاعي، فتكفّلتْ (أمُّ جدّتي) بتربيتي، فكانت تشتري الحليبَ من السوق لترضعني، ولم أعرفْ سيّدةً، ولم أحبّ سيدةً غيْرها في حياتي، ممّا جعلني أختلف في التربية، وفي الطّبع، والمزاج عن إخوتي الخمسة، ولـمّا بلغتُ سنّ الرشد، كانت هذه السيدةُ قد تقدّمتْ في السن، فتكفّلتُ بها، واعتنيتُ بها لِـما لها من مكانة في حياتي.. بدأتِ الأمراضُ تتناوب عليها، والموت الهازِئُ يعبثُ بها، وذات يوم سقطتْ مريضةً المرضَ الأخير، وقد أدركتُ ذلك، ومع ذلك حملتُها على ظهري لمدّة أربع ساعات شاقّة إلى المستشفى.. كانت جدّتي تتألّمُ بصوتٍ عالٍ، وهي تقول للطبيب: [گلْبي أَوْليدي! گلْبي أَوْليدي!] لكنّ الطبيبَ لم يعرْها أيَّ اهتمام، ولم يسألْها حتّى؛ فقال لي [هذه تحتاج إلى عملية، والعملية باهظة الثمن]؛ قلتُ: وكم هو ثمن العملية؟ قال لي: [أنتَ وهي معًا، لا تساويان حتى خُمُسَ ثمن العملية]؛ فأخذ كمشةً من الأسبرين، وناولني إيّاها، قائلا لي: [اِعْطيها واحدة في الصباح، وواحدة في المساء؛ يا الله خُذْها من هنا، وزيدْ مع الطّريق!]؛ ففعلتُ، وفي اليوم التالي، لفظتْ جدّتي أنفاسَها الأخيرة، ورحلتْ من ضيق الدنيا إلى سعَة الآخرة، فأُصبتُ بصدمة، تحوّلتْ إلى اكتئاب، وبقيتْ معاملة الطبيب وأقوالُه، وكأنّها خناجرُ مسمومة مغروسة في قلبي، ومن ثمّة كرهتُ الأطباءَ، وتشاءمتُ منهم، وكأنّهم غِربان، رغْم لباسهمُ الأبيض الخادع، وكرهتُ المستشفيات إلى الأبد..
زوجتي هي كذلك، تكفّلتْ بتربيتها جدّتُها؛ فأُصيبتِ الجدّةُ بداء السّرطان؛ فكان لابد أن تخضع للأشعّة في الرباط؛ فكان كلُّ مريض تتم العناية به فذلك لأسباب خاصة، أما الآخرون فيقال لهم [الجهاز معطَّل].. كانت زوجتي كلّما رافقتْ جدّتَها من (طنجة إلى الرباط)، إلاّ وهي محمّلة بسلع مهرّبة، لأغراض معروفة.. لكنْ ذات مرّة، طُلبَ منها شيءٌ آخر؛ قيل لها: [في المرّة المقبلة، عليكِ أن تأتينا بثلاث زجاجات من الخمر] وكتبوا لها في ورقة ماركات الخمور المطلوبة..
سافرتْ زوجتي إلى مدينة الفنيدق بصحبة أخيها، فبحث أخوها عن مهرّب يتاجر في الخمر، فأتاه بثلاث قنّينات من الخمر الذي أراده أحدهم، وهو خمرٌ غاليُ الثّمن، بالإضافة إلى علبة سجائر (...)، وعادا من الفنيدق، وكم أُصيبا بالخوف لكثرة البراجات بيْن (الفنيدق وطنجة) من جمارك، ودرك، وشرطة؛ لكنّ خوْف الزوجة سيزداد عندما تأخذ الحافلةَ بصحبة جدّتها، وهي متلبّسة بخمور، وموادّ مهرّبة (من طنجة إلى الرباط) إرضاءً لحضرة شخص بدون ضمير، فما إنْ رأى زوجتي حتى ابتسم، وأشار إليها من بيْن المرضى المنتظرين، فأدْخلها مكتبه، ووضع ما أتتْه به من موادّ في خزانته، ثم أمر الممرّض المساعد بإدخال المريضة فورًا.. لم تصارحْني زوجتي بهذه المعاناة إلاّ بعد وفاة جدّتها..
كان جدُّ زوجتي يعاني من مرض هو الآخر؛ لـمّا وصلتُ إلى (طنجة) بعد عملٍ كمدرّس في (الفنيدق)، وجدتُهم يأخذون الرجلَ إلى مصحّة، فعارضتُ ذلك، لأنّ الرجل كان في حالة احتضار، ولكنّ العائلةَ أصرّتْ على موقفها، فنُقِل المريضُ في الساعة العاشرة ليلا إلى المصحّة، لكنّه لفظ أنفاسَه حوالي العاشرة والنصف؛ وفي الصباح، لـمّا أتيْنا لاستلام الجثّة، طلب الطبيبُ منّا دفْعَ (7000 درهم)، وإلاّ لما خرجتِ الجثّةُ من المصحّة، فبدأنا نقترض من هنا وهناك، ودفعنا المبلغَ المطلوب، واعترفت الأسرةُ بأنّي كنتُ على صواب في معارضتي، هل يُعْقَل أن يموت الرجلُ بعد رُبْع ساعة من وصوله إلى المصحّة، فندفع (7000) درهم مقابل ماذا؟ وأصيبتْ أمُّها بمرض في المرّارة والكبد، طُلبَ دفعُ ستّة ملايين لإجراء العملية؛ وصلتُ إلى المصحّة، فوجدتُ الأسرةَ قد دفعتْ مليونًا ونصفًا كتسبيق، كما وجدتُ ممرّضين يدْهنون بطنَ المريضة بمادّة صفراءَ استعدادًا ليوم المجزرة؛ فطلبتُ مقابلة الطّبيب الذي سيجري العمليةَ، وبشقّ الأنفس استقْبلني، فقلتُ له: [يا دكتور، في أمريكا لا تتعدّى نسبةُ نجاح مثْل هذه العملية (اثنين بالمائة)، هذا إذا كان المرضُ حديثَ العهد، وهذه المرأةُ تعاني من هذا المرض لأكثرَ من ثمانية أشهر؛ هل هذا معقول؟!] فوافقني الرأيَ، وألغى العمليةَ، ونجتِ الأسرةُ الفقيرةُ من دفْع (ستة ملايين) من أجل مريضة وضع ملَك الموت اسمَها في قائمة الرّاحلين؛ وكذلك كان، فبعد ثمانية أيام، وبشكل فجائي تمامًا، تُوفّيتِ السيدةُ رحمها الله..
صاحب المقال : فارس محمد