سألْنا الفيلسوف [نيتشه] عن رأيه في الديموقراطية التي يُضْحَك بها على الشعوب كما يقول المؤرّخ [ويليام كار] في كتابه الشهير: [أحجار على رقعة الشطرنج]، فكان جوابُه: [إنّ الديموقراطية معناها انجراف؛ معناها أن يُسْمَح لكل جزء في الإنسان بالانطلاق في المسرّات، والرّغبات، والتفاهات.. معناها انحلال التماسك، وتتويج الفوض بدعوى الحرّية.. معناها عبادة أوساط الناس، ومقْت التفوق، والنبوغ.. معناها استحالة ظهور الرّجال العظماء الذين تحتاجهم الأمّةُ؛ إذ كيف يمكن لأعاظم الرّجال الإذعانُ إلى غِشّ وأكاذيب الانتخابات؟ أية فرصة تقدّمها الانتخاباتُ المغشوشة لأعاظم الرجال؟ إنّ الشعب يكره كلّ من ينتمي إلى حزب من الأحزاب الكذّابة كما تكره الكلابُ الذّئاب.. كيف يمكن أن يترعرع الإنسانُ الأعلى في مثل هذه التربة المتعفّنة؟ كيف، والحالة هذه، يمكن لأمّة بلوغ العظمة إذا لم تنتفعْ وتستخدمْ أعظم رجالها الذين تُثْبَط هِمّتُهم، ويُنْبَذون، لا يسمع بهم أحدٌ؟ إنّ مثْل هذه الأمّة، سرعان ما تفقد أخلاقَها، وقيَمَها، بتمجيدها صاحبَ أكثرية الأصوات في الانتخابات، بدلاً من الفيلسوف، والمفكّر، والموهوب، والنابغ..
في مثْل هذه الأمة، في مثل هذا المجتمع، تتشابه الأشياء، وتتحوّل النساءُ إلى رجال، والرجالُ إلى نساء.. لقد استخفّتِ النساءُ في هذا المجتمع بضُعْف الرجال، فطالبْـنَ بالمساواة للتخفيف من حدّة ضعفِ الرجال.. ينبثق عن المساواة الاشتراكيةُ والشيوعية والفوضويةُ، وكلّها متفرّعة من الديموقراطية.. فإذا كانت المساواة السياسية عدلاً بيْن الناس كما يدّعون كذبًا، فلماذا لا يساوى بيْن الناس في الاقتصاد والحقوق المادّية، ولماذا لا يكون بيْن البسطاء زعماء وقادة؟ إنّ عملية التطور في هذا المجتمع تقتضي انتفاع الأقوياء بالضعفاء، وتقوم كلّ حياة على افتراس حياة أخرى؛ فالسمك الكبير يبتلع الصغير، وهذه هي الحياة برمّتها في مجتمع كهذا.. فالسياسيون يريدون انتزاعَ ما في أيدينا، فتثور الطّبقاتُ المقموعة مطالبةً بالاشتراكية، ظنّا منها أنّ هذه الثورة ستُحرِّرها من تبعيتِها التي هي نتيجة طبيعية لضعْفها وعدم كفايتها؛ ومع ذلك فإنّ العبد لا يكون نبيلاً إلاّ إذا ثار، هكذا أوهمُوه، ومع ذلك فإنّ العبيدَ خيرٌ من البرجوازيين سادة العصر الجشع، وإنّها بلا شكّ لـمِن علامة انحطاط ثقافة العصْر أن يكُون رجالُ المال موضِعَ هذا التقديس والتعظيم..]..
السيد [نيتشه]، على ذِكْر أصحاب المال، فما رأيُكَ بخصوص تولّي أصحاب المال والتجار وزارات ومناصبَ عليا في الدولة؟ [كما قلْت قبل قليل، فإنه لـمِن علامة انحطاط ثقافة أمّة أن يكُون رجُل المال موضع هذا التقديس، والتعظيم، والحسد.. فأفراد هذه الطبقة من رجال الأعمال هم عبيدٌ أيضا، فهم عبيد المال، وهم عبيد العمل الآلي الرّتيب، وليس لديهم الوقت للاطّلاع على الآراء الجديدة؛ والتفكيرُ عندهم حرام، كما أنّ متعة العقل، ولذّة التفكير، فوق متناولهم، ووراء بلوغهم؛ وهذا هو السبب في ضَجرهم، وجشَعهم، وبحْثِهم المتواصل عن السعادة.. إنّ منازلهم الكبيرة، والأنيقة، وڤيلاّتهم ليستْ بيوتًا، وبَذْخَهم بلا ذوق، وتَرفهم بلا طعْم، ومُتَعهم تهْبط بالعقل ولا تنعشه؛ يا لَتفاهتهم! إنّهم يُجْنون المالَ فلا يزيدهم هذا المالُ إلاّ فقرًا؛ اُنظر إليهم، وهم يقلّدون الطّبقةَ الأرستقراطيةَ، فيكبّلون أنفسَهم بقيودها من غيْر أن ينعموا بها تنْعم به هذه الطبقةُ من لذّة التفكير، ومتعة التأمل، وملَكة العقل..]..
[اُنظر إليهم كيف يَصْعدون بسرعة كالقِردَة بعضُهم فوق بعض، إلى أن يجْذبوا أنفسَهم إلى الهاوية والوحل.. لا خيْرَ في هؤلاء الأثرياء، لا لأنفسِهم، ولا لأمّتهم؛ يَجْمعون الأموال، لأنهم لا يستطيعون أن يخلعوا عليها جلالاً بحُسْن استخدامها استخداما نبيلاً في رعاية الفكر، والأدب، والعلم؛ فلا ينبغي أن يحْرز هذه الأموال سوى ذوي العقول، لأنّ هؤلاء الأثرياء الجَهلة يفكّرون بالمال غايةً في نفسه، ويسعون وراءه، ويُفْنون حياتهم في جمعه؛ يا لَخيْبتهم! اُنظرْ إلى جنون الأمم المعاصرة، وهي تسعى إلى إنتاج أقصى ما في وسعها لتبْلغ من الثراء أقصى حدّ مستطاع.. اُنظُر إلى طبقة التجار وهم يتربّصون لبعضهم بعضًا، ويبحثون عن أتفه الأرباح حتى من بيْع القمامة والنفاية.. إنّ أخلاقَ طبقة التجار هذه، لا تختلف في شيء عن أخلاق قراصنة البحار، يشترون من أرخص الأسواق، ويبيعون في أغلاها، ومع ذلك يَصرخون ويطالبون بعدم تدخُّل الدولة في شؤونهم، ليبقوا وحدهم، مع أنّ هذا الصنفَ من الرجال يجب مراقبتُهم أكثر من غيرهم.. يجب أن ننتزع جميعَ فروع التجارة والنقل التي تسعى إلى تكديس المال والثروة، وخصوصًا الأسواق الماليةَ من أيدي الأفراد، أو الشركات الخاصّة، وأن نعتبر الإفراطَ في الثروة والإفراط في الفقر، مصْدريْن من مصادر الخطر التي تهدد كيان الأمّة.. ينبغي على السياسة أن تعمل على إبعاد رجال المال، والأثرياء، عن الحكم، وعن أيّ منصب في الدولة، لأنّ رجُلَ الأعمال ينقصه بُعْدُ النظر.. إنّ المدينةَ السامية كالهرم، لا تستقرّ إلاّ على قاعدة فسيحة ضرورية من الطبقة الوسطى القويّة السّليمة المتماسكة؛ فلا يجوز أن يصير الأثرياء حُكّامًا يديرون سياسةَ الدّولة.. إنّ الحكّامَ الحقيقيين سلطتُهم تكْمن في السيطرة على المال والجيش، ولكنهم يعيشون ويتصرّفون كالجُنْد، لا كرجال المال؛ بل يكونون حكّامًا، وحماةً، يمزِجون بيْن العلم، والقيادة الحكيمة..]..