قبْل الخوض في حِكمة الفيلسوف [نيتشه]، ارتأيتُ أن أضيف معلومات مهمّة تتعلّق بهذا المفكّر الكبير خدمةً للقارئ الكريم.. لقد كان والدُ [نيتشه] قسّيسًا، وكان معظمُ أجداده من أمّه وأبيه من رجال الدّين، وبقي هو نفسُه مبشّرا ونذيرًا إلى النهاية.. لقد هاجم الدينَ لِـما رآه في رجاله من كذبٍ، ونفاق، وعملٍ يخالف الأقوالَ، وهو بالذات ما يحصل عندنا اليوم، حيث استُعمِل الدينُ لإشاعة القتل والغدر، والإرهاب بواسطة دينٍ إسلامي زائف.. كانت فلسفة [نيتشه] محاولةً لموازنة المسيحية وإصلاحها.. كانت أمّهُ تقيةً، وَرِعةً، متمسّكة بأهداب الدّين، من نوْع والدة الفيلسوف [عِمانويل كانط].. وُلِدَ [نيتشه] في (روكن) في [بروسيا] في اليوم الخامس عشر من شهر أكتوبر، عام (1844)، وهو ميلاد [فريدريك وليام الرابع] ملك [بروسيا].. كان والدُه مربّيًا لكثيرين من أبناء الأسرة المالكة، وقد ابتهج لهذه المصادفة الوطنية السعيدة، وأطلقَ على ابنه اسم [فريدريك] تيمُّنًا باسم الملك.. توفي أبوه، وتركه صغيرًا، فأشرفَ على تربيته جماعةٌ من النساء التقيات، الصّالحات من أفراد أسرته، فراح [نيتشه] يمْقت أبناءَ السوء من جيرانه إذا ما سرقوا أوكارَ الطّيور وحرموها من فراخها وبيضها، أو أغاروا على البساتين والحدائق وجرّدوها من ثمارها، أو قاموا بألعاب عسكرية خشنة يقلّدون فيها الجنودَ، أو تحدّثوا كذبًا ممّا جعل أترابَه في المدرسة يُطْلقون عليه اسم [القسّيس الصغير]، ووصفه أحدُهم بأنّه (المسيح في المعبد).. كان يقرأ الإنجيل بطريقة مؤثّرة، تهزّ نفوسَ المستمعين، وترسل الدموعَ في مآقيهم.. كان في نفسه كبرياءٌ، وفخْرٌ، ومقْدُرة على كبْح عواطفه، وتملُّكِ أعصابه، فكان الدّينُ قلب حياته ولبّها، وقد عافتْ نفسُه الزّنا، والخمر، والتدخين، واعتقد بعجز المقبِلين على شرب الجُعة عن صفاء الإدراك، ووضوح الفكر..
في عام (1865) وقع في يده كتابُ الفيلسوف [شوبّنهاور]: (العالم كإرادة وفكرة) فأُعجِب به، واعتبر صاحبَه مربّيا، ومثقّفًا، ثمّ ما لبث أن كره نزْعتَه التشاؤمية، ولم يكنْ لينقذه من [شوبّنهاور] وتشاؤمِه سوى مطالعتِه لكتابات الفيلسوف الشهير [إسْبِينوزا].. وفي سنّ (23) انخرط في سلك الخدمة العسكرية، وكان يُسعِده أن تعفيه الحكومةُ من الجندية بسبب ضعْف بصره، ولأنّه الابن الوحيد لأمّه الأرملة، ولكنّ الجيش الذي لا يتورّع عن تجنيد حتى الفلاسفة، أصرّ على بقائه، ولكنْ حدث أن هوى مرّةً منْ على ظهْر جوادِه، فأُصيب إصابةً بالغة في عضلات صدْره، فاضطُرّ قائدُ فرقتِه إلى تسريحه والاستغناء عنه، فلازمتْه تلك الإصابةُ طيلة حياته، ولم تَقْوَ الأيامُ على شفائها.. انتقل من حياة الجندية ومع ذلك بقي يقدّسها بسبب روحه الوطنية، تلك الحياة المجيدة التي حالتْ صحتُه بيْنه وبيْنها، فانتقل من حياة الجندية إلى نقيضها وهي الحياة العلمية، وأعدّ رسالةً نال بها الدكتوراه في الفلسفة، ولـمّا بلغ (25) عيِّن أستاذًا في فقه اللغة القديمة في جامعة (بال).. وفي عام (1870) وصلتْه أخبارُ اشتعال الحرب بين (ألمانيا وفرنسا)، فتردّد قليلاً، هل يلبّي نداءَ الوطن رغْم ظروفه الصّحية، ويمتثل للواجب، ويتطوّع في القتال أم يبقى في عزلة وانصراف إلى الكتابة؟ وبينما هو يسير في شوارع (فرانكفورت) شاهَد فيلقًا عسكريًا يتّجه إلى الجبهة، فقفزتْ إلى رأسه فكرةٌ كانت أساسًا فيما بعْد لفلسفته كلِّها، وشعر للمرة الأولى أنّ أقوى وأسمى إرادة للحياة، لا تجد تعبيرًا لها في الصّراع البائس من أجل البقاء، ولكنْ في إرادة الحرب، إرادة القوّة، إرادة السيادة.. ورغم ضعْف بصره الذي أقعده عن الاشتراك في القتال استجابةً لنداء الوطن، فإنّه اكتفى بأعمال التمريض في ساحة الحرب..
نعم؛ يا لها من تربية بعيدة عن الموبقات، والفسوق، والكذب، والخداع! ويا لها من روح وطنية آثرتْ نداءَ الوطن المقدّس على ما عداه من أنشطة كالكتابة وغيْرها! هذا هو المثل الأعلى الذي نريد أن يكون عليه الإنسانُ المغربي تربيةً، وروحًا وطنية، وسلوكًا في حياته.. نعم؛ ها هي روح اليونان، وعرائسُ الشّعر، والأدب، وآلهاتُ الرّوايات والقَصص، والفلسفة، والموسيقى قد مدّتْ لـِ[نيتشه] يدَها المقدَّسة، ولكنّه لم يستطعْ مقاومة نداء الوطن، الذي لا يقلّ تأثيرًا على نفسه من نداء الشعر.. وهكذا، يمكن للقارئ أن يستخلصَ أشياءَ كثيرة من هذا النص حوْل فيلسوف، وإيجابيات حياة رجُلٍ، رغْم أنه فقدَ ولأسباب عديدة إيمانَه بربّه؛ فأريني شبيهًا له في الخُلق، والتربية، والوطنية، بيْن مَن يدّعون الإسلامَ الزائف، والوطنيةَ الكاذبة في بلادنا.. هذه المعلومات أوردَها فيلسوفٌ كبير يُدْعى [ويل ديورانت] حتى لا يعتقد القارئُ أنها من (عِنْدِياتي)، كلاّ؛ بل هو نصّ لفيلسوف أرّخَ لفيلسوف، وما أنا إلاّ ناقلٌ أمين لا أقلّ ولا أكثر.. فأنا آخذ من حياة [نيتشه] وفلسفتِه إيجابياتها، وأترك إلحادَه، لأنّ ذلك حكمُه عند الله عزّ وجلّ.. هذا فيلسوف موسوعي بلا شكّ، وله مواقف لا تُنكَر، فهو يكره المذهبيةَ، ويمقت الحزبيةَ، ويشكّ في الديموقراطية، ولا ينصح بتولّي أصحاب المال مناصبَ حكومية، وحتى الإسلامُ ينصّ على ذلك؛ وأخلاقُه أرفع، وأرقى وأصدق من الأباليس، أصحاب العمائم والقلانس، المتأنّقين بوشاح دين كاذب..