إذا كان العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس كما قال "ديكارت"، فقد جعله أهم أساتذة فلسفة العلوم، وهو المفكر المغربي "محمد عابد الجابري"، مدخلا لفهم السبب الرئيسي الذي يجعل بلدان العالم العربي والإسلامي تقف عاجزة عن مواكبة التطورات والدخول إلى مرحلة التقدم، خصوصا أمام ما يشهده العالم اليوم من تطورات سريعة وتسابق نحو التقدم.. فصعوبة المعارك الجارية اليوم أمامنا التي تتمثل في انتعاش الحروب الطائفية في المشرق العربي، ونعاين بمحاذاتها أشكالا من الانتصار لبلاغة العنف والقتل والدعوة إلى الخلافة والإمارة، وهذا ما يشعرنا بالحاجة الماسة إلى المزيد من تطوير الفكر النقدي الذي بلورته أعمال الجابري في مجال السياسة والأخلاق... هذه المعارك تتطلب معول النقد الذي حمله هذا المفكر المغربي طيلة حياته من أجل الإجابة عن إشكالية: هل يمكننا بناء نهضة بدون عقل ناهض؟ ولماذا لم تتطور أدوات المعرفة في الثقافة العربية الإسلامية خلال نهضتها في القرون الوسطى لتمتد إلى الحاضر؟
استطاع محمد عابد الجابري، عبر سلسلة نقد العقل العربي، القيام بتحليل للعقل العربي عبر دراسة المكونات والبني الثقافية واللغوية، ثم انتقل إلى دراسة العقل السياسي، ثم الأخلاقي، كما يرى الجابري في كتابه تكوين العقل العربي أن العقل العربي تكون ووضعت أسسه الأولى والنهائية والمستمرة خلال عصر التدوين، هذا العصر الذي جمعت فيه الأحاديث وتفاسير القرآن وبداية كتابة التاريخ الإسلامي وتأسيس علم النحو وقواعد الفقه، وشكلت فيه الفرق والمذاهب الاسلامية، وهو نقطة البداية في تكوين النظام المعرفي في الثقافة العربية، في هذا العصر اكتمل تكوين العقل العربي ولم يتغير منذ ذلك الوقت ومازال سائدا في نقاشنا حتى اليوم.
وعليه، فإن بنية الثقافة العربية ذات زمن واحد منذ أن تشكلت إلى حدود اليوم، زمن راكد يعيشه الإنسان العربي اليوم كما عاشه أجداده في القرون الماضية. ويعتبر مشروع الجابري ليس مجرد الحديث عن تاريخ تكون العقل العربي، بل هو مشروع لإنهاض هذا العقل.. والمقصود بمعنى العقل باعتباره أداة الانتاج النظري أو منظومة القواعد للنشاط الذهني المستخلصة من ثقافة خاصة، فمفكرنا هذا لا يمارس النقد من أجل النقد، بل من أجل التحرر مما هو مميت ومتخشب في كياننا العقلي وإرثنا الثقافي... ولعل ابتكاره لمصطلح العقل المستقيل يوحي بأن الرجل رأى شيئا لم يره أحد قبله؛ فهذا العقل نراه اليوم يبتعد عن النقاش في القضايا الحضارية الكبرى كنهاية نتيجة مفادها أن العقل العربي اليوم بحاجة إلى الابتكار والابتعاد عن التقليد والرتابة، إذ أنه لا يمكن تحصيل فكر قادر على صناعة النهضة دون عقل ناهض ونقد للعقل العربي وبحث صيرورته التاريخية وتحديد المفاهيم المتحكمة في بنيته.
لست مفكرا، لكن ممكن جدا أن أكون واحدا ممن أثر فيهم فكر الجابري الذي اهتم بالتراث وسؤال الهوية بإلحاح، ولهذا كنت وما زلت أعتبر أن المفكر الحقيقي لا تهمه الحقيقة في حد ذاتها، بل يطرح الأسئلة الموصلة لها ويمدك ببعض الأدوات للبحث عن الأجوبة.. يقول الجابري "ميدان واحد لم تتجه إليه أصابع الاتهام بعد، وبشكل جدي وصارم هو تلك القوة أو الملكة التي يقرأ العربي ويحلم ويفكر ويحاكم... إنه العقل العربي ذاته".. والمدخل يكون عن طريق تدشين عصر تدوين جديد يقطع مع الموروث الثقافي ليس قطيعة نهائية بقدر ما هي وقوف على الجوانب المضيئة في هذا التاريخ من أجل التقدم والإصلاح واللحاق بركب العالم المتطور. وبقدر ما حضي مشروع الجابري الفكري من استحسان واحتفاء، فإنه أثار أيضا موجة من الانتقادات الكثيرة لكن الذي يستحق الذكر في هذه الانتقادات هو ما أصدره الأستاذ جورج طرابيشي ضمن سلسلة تحت عنوان "نقد نقد العقل العربي"، إذ أن عمله أوسع وأشمل بحث نقدي أنجز حول مشروع الجابري.