ليست المرة الأولى، طبعا، وعسى أن تكون الأخيرة التي يجبر فيها المغاربة على إثقال أذنا رئيس الحكومة السابق، عبد الإله بنكيران، بقولة العرب "إذا لم تستح فاصنع ما شئت". وذلك لتواتر زلات لسانه المرتبطة بوثاق صلب مع ما يمتلكه من حس حربائي يفصل من جهته بِبَون شاسع بين الخطاب والممارسة. غافلا أو متغافلا بأن متتبعيه يسجلون جيدا قفزاته على مر السنين، وليسوا بذاكرة "السمك الأحمر" السريعة النسيان كما يعتقد.
وحتى لا يكون فهم الرئيس المبعد قد ذهب إلى أن القصد من "إصنع" هو "الأمر" وليس "النهي"، واجتنابا لأي تحوير قد يحتمل أكثر معنى، تستدعي إلزامية المستجد الشرح للأستاذ بنكيران ولو بـ"الطباشير والسبورة" أن من سلموا أكتفاهم لصعود حزبه إلى سدة الحكم، لم يعد لهم حيز إضافي لتحمل المزيد من طيش غوغائه، وتغيير مواقفه بتغيير مواقعه إلى حد يستبلد بها الغريب قبل المقربين من بني جلدته "العاجنين" لسيرته.
فأن يتساءل عبد الإله بنكيران بالتهكم على "فين المشكل؟" وهو يتلقى من الملك محمد السادس عبر مستشاره علي الهمة الأمر له بمعاش استثنائي. تقتضي الإجابة رد الاستغراب المطلق من عدم ترجمته سابق الإلتزامات، والتي تأكد أنها مجرد رنين شعارات، بإبداء خصلة الوطنية لصالح تحويل تلك الملايين إلى الصالح العام، الذي طالما نادى به أيام "تمسكن حتى تتمكن". واليقين أن ملك الفقراء سيكون وقتها مباركا، بأي حال من الأحوال.
إنما، أن يستقبل الخبر بالأحضان و"يضرب الطم". فهذا ما لا يستساغ. والأدهى أن يبرر بتبرير كان أقبح من الزلة عند شيوع الأمر، كونه يعود إلى حالة "الزلط" و العوز وضيق ذات اليد، بل والافتقار إلى سكن باسمه. فبالله من يصدق الأمين العام لحزب "الطهرانية" في حجيته هاته من أسوياء العقول؟، ومن يمر على مسامع أحدهم هذا القول دون أن يتسمر مندهشا في مكانه؟ وهم الذين صدق منهم من قال: "شي حاجة فيك ماشي لوجيك".
وعلى ذكر المنطق، كان من الجائز أن يكون له محل في النازلة لو قضى الرجل السبع سنوات بالمنصب الثاني في هرم الدولة محترما بالكامل للمؤسسة الملكية، في حين تصدح الحقائق بأنه يا ما أساء لها داخليا وخارجيا، ويا ما كاد أن يُسعر علاقتها بأبناء وطنها لولا متانة الصلة وتجذر روابطها، حتى أنه وبدل أن يلبس قبعة وائد الخلاف، تفنن في ارتداء جبة مشروع الفتنة. وليس هذا فقط، وإنما كان له السبق في توطئة الأرض الخصبة لخدش جميع المؤسسات.
ومن هنا، تأتي مشروعية إلصاق اسم بنكيران بكل ما هو خادش، إذ كلما ساق الحديث إلى الفشل الحكومي تطلع صورة بنكيران، وكلما نوقش تلطيخ المؤسسة التشريعية تطلع صورة بنكيران، وكلما تم تداول رجة الجهاز القضائي تطلع صورة بنكيران، وكلما تعطل الحوار وتفاقمت معضلة تهديد السلم الاجتماعي تطلع صورة بنكيران. لذلك، لم يوجد مسؤول حكومي "مرمد" مؤسسات بلاده كما "مرمدها" بنكيران وكأنه يصر على الانفراد بالإساءة وحمل لقب "أنا أو لا أحد".
والمثير أن عبارة "أنا أو لا أحد" لا تستهوي الرئيس السابق للحكومة فقط، بل باقي رفاقه "البيجيديين"، ومنهم الرئيس الحالي سعد الدين العثماني الذي بالمناسبة قد يميل إلى نطقها بـ"كِيَّا وْلَّا حتَّايانْ" لربما يحجز لشخصه موضعا متميزا نظير ما شاع عن شمولية الفكر "الخوانجي"، والتقائه حول ترسيم أولوية المصلحة الشخصية، ثم بعدها الطوفان. مما بدا جليا في تبخر الوعود السالفة لهؤلاء مقابل ما ظهر من آثار النعمة عليهم، بحجة هجر بيوتهم الأم إلى أفخم الفيلات، واستبدال أرخص السيارات بالأغلى.
النهج الذي لم يتركه مسؤول في فلك "المصباح" إلا واقتفى آثاره، سواء بالرئاسة أو عبر الانضمام إلى الأعضاء المسيرين لمفاصل المدن والجهات، معلنين كل النهاية والعفاء على خدمة الشأن العام، وفي توافق مدروس على تبجيل مقولة "الله ينعل اللي خلا بلاصتو نقية". وبما أن بنكيران كان وسيظل الزعيم رقم واحد لهذه التجربة يستحق العودة للاستئناس بريادته المعززة بصلابة الوجه ودموع التماسيح التي برع في توظيفها طعما في حناجر مرهوفي الإحساس وسريعي التأثر، وينسون ما قاله في لحظة تباهي بأنه ومعه حزبه صماما أمان المغرب، أو بعبارة أوضح "ضرورة وجودية" فوق أرض هذا الوطن، ومن غيرهما على الدنيا السلام للعباد والبلاد.
المهدي غزال