صار المفكّرون اليوم، ينتقدون الديموقراطية، ويُجْمِعون على أنّها لا تخْدم الأمم، ولا تستجيب لطموحات الشعوب؛ فأنت ترى عشرات المؤسّسات التي انتصبتْ باسم هذه الديموقراطية الخادعة التي يَضحكون بها على الشعوب؛ لا، بل إنّ هذه الديموقراطية صارت هي مَن يحْمل الدّيكتاتوريين إلى هرم السلطة، وصارت هي مَن يمنح السلطة للجهلة والأغبياء، حيث يتسابق فيها السياسيون على الامتيازات، ويؤمّنون مصالحَهم كارتفاع مبالغ التعويضات، والتقاعد، وهم يرتدون الزّي التقليدي؛ فاذْكُرْ لي متّع الله بكَ، مصلحةً واحدة من مصالح الشعب خدموها، أو مظهرًا من مظاهر المظالم رفعوها، أو أوْفوا بوعد واحد من وعود وعدوا بها الشعبَ فنفّذوها، أو مشكلاً من مشاكل الأمّة أصلحوها، وتسمعهم يتحدّثون عن التقدّم، والتّطور، وهم في ذلك صدَقوا، وما نافقوا، ولا كذبوا، إذا كانوا يقصدون التطوّر إلى الوراء، أو تقدُّم مصالحهم التي لا تعدّ ولا تـُحصى، يساندهم إعلامٌ مضلِّل، وصحافة منافقة تقتات من فُتات موائدهم..
هذه الليلة جالستُ فيلسوفا يمتاز بالجرأة، والصّراحة.. هذا الفيلسوف البائس الذي رأى قبْل ثلاثة أيام من وفاته، حصانًا يجرّ عربةً ثقيلةً، وصاحبُه يضربه ضربًا موجعًا في الشارع، فسقط الحصانُ، وبدأتْ شفتاهُ تنزفان دمًا لشدّة السّقْطة، وما زال صاحبه يضربه بالسوط بلا شفقة ولا رحمة، فارتمى هذا الفيلسوفُ على الحصان ليقيه ضربات السوط، ثم عانقه في مشهد يُدْمي الفؤاد، ويعْتصر الكبد الرّطبة، وقال له: [اِصْبِرْ يا صديقي، فإنّي وإيّاك نتقاسم نفس الوضع] وانهار الفيلسوف بالبكاء والنّحيب.. كان هذا الحصان في الواقع يرمز إلى الشعب المقموع الذي تتناوب عليه سِياط الديموقراطية.. لكنْ من هو هذا الفيلسوف يا ترى؟ إنه الفيلسوف الألماني الشهير [فريدريك نيتشه: 1844 ــ 1900] صاحب كتاب: (هكذا تكلّمَ زاردُشْت: 1883).. كان [نيتشه] رجلاً طيّبًا، ووديعًا، بالرغم من كتاباته التي تتميّز بالحدّة، والشدة، والقسوة؛ بلغ كرسي الأستاذية في الجامعة وهو لم يتجاوزْ بعْد (25) سنة من عمره.. كانت كتبُه تمتاز بسحر ألفاظها، وعمْق أفكارها، وهو مستوًى لم يبلغْه حتى من عاشوا إلى (80) من أعمارهم، فيما هو مات ولم يبلغْ بعد (46) سنة من عمره.. كان عدوَّ رجال الدّين بسبب مكْرهم، وكذبِهم، ونفاقهم..
في عام (1879) أُصيبَ وهو في زهرة عمره بمرض جسدي، فأوشك على الموت، فأوصى أختَه قائلا لها: [عِديني يا أختى، إذا مِتُّ أن لا يقف حوْل جثماني إلاّ الأصدقاء، وأن لا يدخلَ الفضوليون من الناس، ولا تَدَعي رَجُلَ دين ينطق بالأباطيل والأكاذيب على قبري في وقت لا أستطيع فيه الدفاعَ عن نفسي ضدّ شروره؛ أريد أن أدفن في قبري وثنيًا شريفًا].. ورغْم كل هذا، فقد كان (نيتشه) شريفًا فعلاً، فهو لم يكذبْ، ولم يأمر بالقتل، والإرهاب، والظلامية؛ كان يختلف عن رجال الدين المكَرة، وعن السياسيين الكذبة، وعن الكتبَة المنافقين، وقد أثبت التاريخُ صدْقَ فلسفته، وأكّد صحّة توقّعاته في القرن (20).. كان (نيتشه) أطهر من أيّ رجُل دين منافق، وكذّاب، ومعاقِر الزِّنا؛ لقد عافتْ نفسُه النساءَ، والخمر، والتدخين.. قال: [يقول الضّعيف فاتِر الهمّة (إنّ الحياةَ لا تساوي شيئًا) وخيْرٌ له أن يقول (إنّي لا أساوي شيئًا)]، وكأنّي به يردّ على القتلة، والإرهابيين، الذين يستخفّون بحياة الناس، فيفجّرون المباني، ودُور العبادة باسم دين زائف، كما أجده يردّ على السياسيين الكذَبة، والحزبيين الخونة، عندما يقول [إنّ الوطنَ كذْبة كبيرة]، وهو على حقّ، فكلّهم يدّعون خدمة الوطن، فيما هم أصحاب مناصب، ومصالح، وامتيازات.. قد يقول لي قارئٌ كريم: [كيف تستشهد بفلسفة رجُل كافر، وملْحد، وأنت مسلم مؤمن؟] وجوابي هو أنّي كمسلم، آخذ بوصية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين قال: [الحكمة ضالّةُ المؤمن، يأخذها ممّن سمعها، ولا يبالي من أيّ وعاء خرجتْ. ثم يقول عليه الصلاةُ والسلام: [خُذوا الحكمةَ ولو من ألسنة المشركين] صدق النّبي الكريم.
لهذا، فإنّي أجد [نيتشه] أصدق من كذَبة حزب (الدعوة إلى الله)؛ وأصدق ممّن يدّعون خدمةَ الدّين بأبهظ الأثمان، فيما هم يخدمون مصالحهم، ويكْذبون على الأمة، ومنهم من حمل الشبابَ بظلاميته إلى هوّة سحيقة لا بارقة من أملٍ فيها، ومنهم من استعان بأهل الكفر على أهل الإيمان، فمزّق الأمّةَ، وقطّعَ أوصالها، وأراق دماءَها، واستحلّ نساءَها بفتاواه السوداء، ثم [اللهم إنّي أعوذ بكَ من علمٍ لا ينفع، و قلبٍ لا يخشع، ودعاء لا يُسْمَع، ونفسٍ لا تشبع]؛ هكذا دعا رسولُ الله صلّى الله عليه وسلم؛ وفي حلقة قادمة سنرى ما قاله [نيتشه] بخصوص أهل سياسة النفاق والدّجل، وسنرى رأيَه في التاجر عندما يصبح وزيرًا، فيستحيل المواطنُ عنده زبونًا، وتصير الأمّة سوقًا، وكيف صارت النساءُ رجالاً أحسن من الرّجال الذين لهم فقط الذكورة، وهو ما بقي لهم بعدما فقدوا الرجولةَ، وهو ما عناه الإمامُ [عليّ] كرّم الله وجْهه: [يا أشْبه بالرّجال وليسوا برجال..]