أبو أمين.
في كتابه الجديد الذي سماه “رباط المتنبي” بدا المؤرخ السابق للمملكة حسن أوريد وكأنه في قاعة انتظار وأن الملل تسرب إليه من كل جانب كما يتسرب الماء بين الثقوب.
فالرجل لم يجد ملاذا إلا في الماضي البعيد، أما الماضي القريب فقد فضل أوريد أن يتنكر له، ولا يعترف بما أسداه إليه من نعم ومكارم.
ويعد اوريد في هذا الكتاب السنين عدا، فهو نايف الستين، ولم يعد يقوى على تحمل اعباء الزمن، كما أن الأهل تنكروا له، فلا الزوجة ولا الأبناء، ولا الطلبة ولا الاصدقاء، يطرقون بيته اليوم، وحتى حين يحن إليهم فالزوجة تنعثه بالمجنون.
وفرارا من كل هؤلاء واولئك، يستسلم حسن أوريد لجنونه فيلقي به خياله الى شاعر العظمة وحب الذات، أحمد بن الحسين المتنبي، ويستدعيه في خياله، كي يتقاسم معه وحدته وأحزانه.
وتختلط على حسن أوريد معايير الحكي والسرد والرواية، فيختنق قلمه تحت وطأة الركاكة والتكرار الممل، و تتقاذفه التعابير اللغوية التي استورد بعضها من العراق وبعضها من الدارجة، وبعض ما تيسر له من اللغة العربية المستحدثة، فلا المتعة تغريك في ما يحكيه، ولا الإبداع يلهيك فيما يرويه، ليجد القارئ نفسه وهو يتصفح هذه الرواية، كالمصاب بضيق التنفس في مكان ضيق.
والحقيقة أن ما يريد أن يقوله أوريد في كل ما كتبه في “رباط المتنبي” انه يلعن ماضيه وحاضره، ويتوسل الى من القى به خارج أسوار القصر كي يرأف به، ثم تأخذه عزة نفس لم نلمسها منه حين كان ينعم بحرير السلطة، فينقلب على الجميع باتهامات وانتقادات للنظام في المغرب، حكما وديمقراطية، وحكامة.
وحين يعبث التيهان بحسن أوريد، يقوده خياله الى شتم العرب والعربية، التي ألف بها كتابه، وكان الأجدر أن يؤلفه بالامازيغية، التي التمس يوما ودها عبر انشطة جمعوية، فلم ينل منها ما كان يصبو إليه، فألقى بأنشطته الجمعوية إلى الحضيض بعدما أصابها الصدأ.
إن قارئ الرواية لا يمكنه أن يتصور مصيرا مخزيا كالذي وصل إليه حسن اوريد، الذي أبدع أصدقاءه فنعتوه ب “حسن أويد”، وهو اسم يجمع الأمازيغية بالعربية، كما يستحضر سلوك وصفات هذا الرجل الذي يلهث وراء الدرهم، ولو كان تحت حضن دجاجة.
فحسن أوريد الذي كان ينعم في عز القصور، يمتهن اليوم حرفة حفار للقبور، وينبش في ذاكرة الشعر عن المتنبي، الذي لعن يوما كل ما خلقه الله وما لم يخلق، ليعيش معه تلك الصفات التي غلبت على جزء كبير من شعره، وهي صفات التكبر والتهور، والجشع والطمع، والغرور والفجور، والتفاخر والتنكر، والتضخم المبالغ فيه. وكأن أوريد أصبح يعي ان كل هذه الصفات لا يمكنها أن تلقي بصاحبها الا خارج دائرة الزمن، ما لم يصب بهستيريا او جنون.
وحين يعترف أوريد بأن زوجته تتهمه بالجنون، ويتخوف أن يشك جيرانه انه أصبح مجنونا فعلا، يختار لضيفه نفس المصير، فيلقي به أيضا في مستشفى المجانين، الذي ليس إلا صورة يسقطها المؤرخ السابق للمملكة على العاصمة الرباط.
ومن جنون عظمته، أو عظمة جنونه، أن أوريد يتحدث في الكتاب عن الفترة التي كان فيها مؤرخا للمملكة، ويفسر أسباب إعفائه من مهامه بكونه رفض تزوير الحقائق التاريخية، بل ويصف الذي خلفوه بالمنصب بعديمي الكفاءة.
ومن شدة تنكره وجحوده لماضيه ومحيطه السابق، أن أوريد وجه تهما كثيرة الى مراكز السلطة بارتكاب الجرائم في حق الشعب، لتصبح الرباط في روايته مجرد “مارستان”، حيث السلطة والحكم والاستقواء، وأما سكانها فهم مجرد مجانين، منصاعين للأوامر، ولا يقوون على الفرار.
وكعادته في كتابات سابقة، حيث يشهر سلاح التهديد والوعيد، من أجل الحصول على المزيد، يقول أوريد إنه فضل التخلي عن كل المكاسب والامتيازات التي منحها له منصب “مؤرخ المملكة”، كي لا يزور التاريخ، بل انه قرر ان يكشف كل أسرار القصر كلما سنحت له الفرصة، ومنها تعرضه للخيانة من طرف المحيطين بالملك، الذين ألقوا به خارج أسوار القصر.
وسنتابع في مقال آخر ادعاءات أوريد كما يحكيها في روايته الجديدة.