منذ شهْر ونيِّف تقريبًا، افتتح جلالةُ الملك الدّروسَ الدّينية في قناة وإذاعة (محمّد السادس) وأراد جلالتُه أن تكون هذه الدروسُ في حُلّة جديدة، بحيث يركّز فيها العلماءُ على تنقية الأحاديث النبوية من الشوائب، ومن الأحاديث المكذوبة على النّبي الكريم، ممّا يسيء للدّين، ولشخْص الرّسول العظيم؛ فكان من المنتظر أن تعرف هذه القناةُ ثورةً دينية ضدّ الأحاديث المكذوبة، والروايات الموضوعة، لكنْ لا شيء من هذا حدث؛ فالأحاديث المسيئة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم تُمَسّ، ولم يتطرّقْ إليها أيُّ عالمٍ أو فقيه بما يتطلّب ذلك من جرأة، وشجاعة، ممّا يحتّم إعادةَ النظر في تشكيلة المجالس العِلْمية عبْر المملكة؛ كما يجب إعادةُ النظر في تركيبة الطاقم المشرف على القناة؛ فبرامجُها رتيبة، ومتشابهة، ممّا يولّد المللَ عند المشاهد، كما أنها لا تخوض في المواضيع المهمّة، ولا تقرُب أبدًا الأحاديثَ المشينة التي تستهدف النبيَ الكريم بأحاديث مكذوبة، وروايات مغلوطة تناقض القرآن الكريم، وتخالف ما عُرِف به رسولُ الله من فضائل وأخلاق، ممّا يجعل هذه القناة وهذه المجالس العلمية بعيدة كل البعد عمّا خُلِقتْ من أجله؛ ومعلوم أنّ هذه المؤسّسات الدينية ما خدمتْ فينا الدينَ منذ نشْأتها، وما صدحتْ يوما بكلمة الحقّ، وما أحسسْنا يومًا بوجودها في الأمّة، والواقع الـمُعاش يشهد عليها ولا تشهد لها؛ فأيّ دين تخْدم؛ وأيّ مسلم تخاطِب؛ وأيّة أهداف نبيلة تريد بلوغها إنْ كانت لها فعلا أهداف وغايات؟
لو سألتَ أحدهم عمّا هو الدّين، لسخر منك، ولاتّهمكَ بالجهل، ولأجابكَ: هو الدّين! ولأجاب آخر: هو الصلاة، والصوم، والزكاة، والحجّ.. ولأجابكَ آخر بجواب آخر، لأنّ لفظة الدّين ولكثرة استعمالها، وذيوعها، تُصْبح كسائر الألفاظ الشائعة غامضةً رغم أننا نعتقد أنها واضحة، وهي ليست كذلك؛ فلو كانت واضحةً فعلاً كما نعتقد خطأً، لما ترتّب عن الدّين قتلٌ، وذبْحٌ، وإرهاب، ولـمَا كانت مصيبتُنا في ديننا، ولـمَا كان الدّينُ هو الأصل في التفرقة، والتمزّق، والعداء، والاختلاف في الدّين نفسِه.. والدّينُ يصْبح عامِل تَفْرقة إذا هو خلا كُلّيةً من الروحانية، لأنّ الروحانية توحّد البشر، فيما الدينُ بلا روحانية يفرّقهم، ويحيلهم إلى أعداء.. فما هو الدين يا ترى؟ الدّين في اللغة هو العادة، والحال، والسّيرة، والسياسة، والرأي، والحُكْم، والطاعة، والجزاء، ومنه: مالِكِ يوم الدّين، وكما تُدين تُدان..
ويُطْلَق الدّينُ عند فلاسفتنا القدماء على وضْعٍ إلاهيٍ يسوق ذوي العقول إلى الخير.. والفرق بيْن الدّين والملّة والمذهب، أنّ الشريعةَ من حيث إنّها مطاعة تسمّى دينًا؛ ومن حيث إنّها جامعة تسمّى ملّةً؛ ومن حيث إنها يُرجَع إليها تسمّى مذهبًا.. وقيلَ: الفرقُ بيْن الدّين، والملّة، والمذهب، أنّ الدّين منسوبٌ إلى الله تعالى؛ والملّة منسوبة إلى الرّسول؛ والمذهب منسوبٌ إلى المجتهِد.. وكثيرا ما تُسْتَعمل هذه الألفاظُ بعْضها مكان بعض، ولهذا قيل إنّها متّحدة بالذات، ومتغايرةٌ بالاعتبار.. ويُطْلَق لفْظ الدّين أيضا على الشريعة، وهي السّنة، أي ما شرّعه الله لعباده من السُّنن والأحكام..
وللَفْظ الدّين في الفلسفة الحديثة عدّةُ معانٍ:
1) الدّينُ جملةٌ من الإدراكات، والاعتقادات، والأفعال الحاصلة للنفس من جرّاء حُبّها لله، وعبادتِها إيّاه، وطاعتِها لأوامره.. (2 والدّين أيضا هو الإيمان بالقيم المطلقة، والعمل بها، كالإيمان بالعلم، أو الإيمان بالتقدم، أو الإيمان بالإنسانية؛ ففضْل المؤمن بهذه القيم كفضْل المتعبّد الذي يحبّ خالقَه، ويعْمل بما شرّعه، لا فضْل لأحدهما على الآخر إلاّ بما يتّصف به من تجرُّد، وحبّ، وإخلاص، وإنكار للذّات، والذي يعتنق دينَكَ، فهو مَن أعجبَه سلوكُكَ وأخلاقُكَ وصِدْقُكَ، وليستْ صلاتُكَ أو لحيتُكَ أو جُبَّتُكَ.. ونحن نرى نُفورَ بعض الناس من الدّين لـِِما ارتبطَ في أذهانهم بالذّبح، والقتل، والإرهاب، فيما كلُّ هذه الأمور المشينة لا علاقةَ لها بالدّين بتاتا.. وغموض لفظة الدّين، يخْدم مصالح أعداء الدّين، بل هم يهْدمون الدّينَ بواسطة الدّين، لتمزيق الأمّة، وإثارة الفتنة، وإشاعة الإرهاب، بمصطلحات دينية مثْل (الجهاد).. ومن الناس من يوظّف الدينَ لقضاء مآربَ، وحاجاتٍ، وبلوغ مناصب، وأطماع.. ومن الناس من يختبئ وراء رداء الدّين، لإخفاء حقيقة أمْره بدين كاذب.. ومن الناس من يستغل الدينَ في خطابه خلال حملات انتخابية، ودعايات سياسية، أو خُدَعٍ حزبية.. ومن الناس من يدّعي البركات، وتحقيقَ المعجزات، في معالجة المرضى، أو السّحر، أو الحظّ العاثر.. ومن النّاس مَن يتظاهر بالتقوى لبيع موادّ فاسدة للمؤمنين، فيما الدينُ كما رأينا من كلّ ذلك براء، لأنّ الدّينَ خيرٌ، وسلامٌ، وصدقٌ، وحُسْن سلوك في السّر والعلن، وما دون ذلك كذِبٌ وهُراء..