طه لمخير
استمرارا في قراءة خلفيات الأزمة التي يشهدها موقع هسبريس مع بعض مؤسسيه، والتي نرى أنها لم تأخذ بعد حظها من الاهتمام الإعلامي لأسباب موضوعية تتعلق بنفوذ هذه المؤسسة وشبكة العلاقات التي تربطها بمختلف الفاعلين في القطاع، وذلك على حساب حق الرأي العام في المعلومة خصوصا عندما يتعلق الامر بموقع يعد من المواقع التي لازالت إلى حدود الساعة على الأقل -وبغض النظر عن العوامل الفعلية -تحظى برتبة متقدمة في المغرب حسب تصنيف مؤسسة alexa للمواقع الالكترونية.
الحملة الرخيصة، نشر الغسيل، الاحباط النفسي، المصالح المتضاربة، الدوافع والغايات، المهنية والابتزاز، والاسترزاق والمتاجرة، النفوذ الخارجي و التمويل من المشيخات، والايديولوجيا والإشاعة… كلها عناوين لسؤال لماذا لانفصال؟ الذي وضعه الصحفي خالد البرحلي أحد المنشقين عن الموقع على صفحته في فايسبوك، ليجيب عنه بطريقة مكيافيلية تقول المهم دون أن تقول الأهم، وان كانت الحقيقة دائما لها أكثر من وجه خصوصا في الوقائع التي تكون عرضة للتحريف والزيادة او النقصان وحظوظ النفس.
لكن ما يصدر عن المنشقين عن المؤسسة، من آراء وانفعالات ومزاعم وأحاديث - ربما لم يكونوا هم أنفسهم يرغبون في الكشف عنها، لأنها تدينهم أخلاقيا ومهنيا بقدر ما تدين خصمهم بالنظر إلى التواطؤ الذي دام لسنوات طويلة -يعد مرآة يمكن من خلالها رؤية جانب من الأعطاب البنيوية للصحافة الخاصة في المغرب، حيث أنها تعمل في سياق حمية القبيلة التي تمارس أعمال النهب والسلب الإعلامي، وتشن حملاتها وغزواتها لجني غنائم مادية وتتحول مع الوقت بعد تأمين قاعدة عريضة من القرّاء الأوفياء، وتبعا لذلك قاعدة أخرى من المستشهرين وذوي المصالح السياسية والأيديولوجية، الى شركة تعمل بمنطق قطاع الطرق الذين يبتزون قوافل الأخبار في عرض صحراء الاعلام. يتحول الخبر الى اداة للمقايضة والعناوين الى منصات هجومية على من يأبى أن يرضخ لقواعد الصفقات ومنطق الاشهار، ناهيك عن مقالات الايديولوجيا التي تخدم تيار الاسلام السياسي بنكهة عبد الله بن بية لا يوسف القرضاوي.
هناك صحافة، وهناك شركة إعلانات، الاولى تعمل بضوابط المهنة وتحترم قراءها بكونها تقدم منتجا إعلاميا ومعرفيا خاليا من البروباغندا، وتمتنع عن نشر اخبار موجهة او مقالات معلبة لا تزيد عن كونها ملحقات إضافية في بنود صفقة تجارية بحثة، وحقول تجارب لتصنيف السياسيين والمثقفين المقبولين وأولئك المغضوب عليهم عند المؤسسة وعند المتعهدين الأيديولوجيين، هنا يتحول الخط التحريري الى خط من خطوط البورصة يعلو وينزل حسب دينامية سوق المال والأعمال.
لماذا الانفصال؟ ولماذا الآن؟ لعل كل ما اراد قوله البرحلي من تدوينته المطولة على صفحته انه لم يقل شيئا بعد، وأن بجعبته أسرارا كثيرة اكتفى حاليا بمجرد إعطاء انطباع بنهاية تجربته المهنية مع الموقع وتبرير ذلك بمبررات أخلاقية ومهنية محض، الامر طبعا يتجاوز هذه الهلاميات التي لا تزيد عن كونها واجهة تطهيرية لدوافع الصراع و كلام للاستهلاك الروتيني، أما الحقيقة فقد تظهر مع الكتاب الذي يعتزم نشره أو الوثائق التي بحوزته وزميله نور الدين لشهب وقد لا تظهر أبدا، الامر في النهاية خاضع للمفاوضة والتسوية.
ولكن، يمكن ان نعتبر أننا أمام "دمى" تحركها دوائر لا تظهر في المشهد وأحيانا قد تبدو بعيدة كل البعد عن ما يدور في الحقل الإعلامي المغربي، دوائر هي أكبر من الموقع والمنشقين عنه، حيتان تبتلع المؤسسات الخاصة وتدير اللعبة الإعلامية في العالم العربي على مستوى القطاع الخاص بصيغة شبه احتكارية.
نعلم الان أن السيد خالد البرحلي والسيد نور الدين لشهب ينتويان مع شركاء آخرين وبإشراف من عزمي بشارة المتخصص في اختراق الفضاءات الإعلامية لدول تستهدفها قطر، تأسيس مشروع صحفي جديد بايعاز من قطر التي تسندهم في خلافهم مع هسبريس، لدرجة ان الاعلام القطري وعلى رأسه الجزيرة وتوابعها الصغرى مثل موقع عربي 21 والترا صوت وغيرها دفعت بثقلها في الازمة ونشرت عدة مقالات تنحي باللائمة في الأزمة على الإمارات التي تعتبرها المتحكم الرئيسي في الخط التحريري للموقع، بينما يحاول الإماراتيون حماية مؤسستهم الأثيرة في المغرب بشتى وسائل الدعم والسبق الصحفي.
لكن هناك أيضا جانب آخر، فالمؤسسات لها عمر معين تشيخ ثم تتلاشى، وفِي فترة شيخوختها تبدأ الانشقاقات، الجزيرة اليوم ليست هي الجزيرة قبل عشر سنوات، وكذلك هسبريس اليوم يعيش على إيقاع تهاوي الشعبية وانحسار التأثير. فقط تلك القادرة على الإبداع والتجديد والثورة على تقاليدها القديمة ومراجعة مسلماتها وضخ دماء جديدة في هيكلها التحريري؛ هي التي تستطيع أن تساير الزمن، وهذا حال مؤسسات نشأت منذ أكثر من مائة عام مثل الواشنطن بوست والنيويوركر وغيرهما.
المؤسسات الغربية قد تتلقى دعما من دول خليجية وغير خليجية، من شخصيات ذلت ثروة ومؤسسات خيرية وغيرها، لكنها لا تجعل ذلك الدعم ينفذ الى صميم عملها الصحفي والفكري، ويضع مصداقيتها على المحك ويصادم المصالح القومية العليا للبلد الذي تنتمي إليه. قد تنشر مقابل الدعم مواد للتعريف ببلد ما او الترويج له سياحيا مثلا، أو بورتريهات خفيفة لحياة هذا السياسي أو ذاك الاقتصادي، لكن خطها التحريري يبقى في منأى عن المتاجرة بالخبر والرأي، ومحاطا بطراز من المؤرخين البارزين أو من فلاسفة علم الاجتماع وصحفيين موسوعيين ورساموا كاريكاتور حقيقيون (لا رسوم متحركة) يحترمون خيال الملاحظ وقدرته على التحليل، لا حفنة من الهواة على تخوم الصحافة لم يقومو يوما لتحقيق صحفي احترافي، واستسهلوا أسلوب النسخ واللصق، وإعادة صياغة عناوين مواد الصحف المحلية والدولية فيها من الفهلوة والسطو بقدر ما فيها من التمويه وحُسن التزوير.