طه لمخير
كثيراً ما تصادفنا هذه العبارة ونحن نذرع شوارع المدن وأزقتها، لدرجة أنها أمست علامة مسجلة تكاد تحرز ملكية أدبية خاصة بجدران المدن المغربية، وتصلح لتكون عنوان رواية تحكي عن تاريخها وظروف نشأتها بعد الاستعمار. والغريب أن روائح البول لا تفوح إلا على الجدران التي تكتب عليها هذه العبارة المستفزة على وجه الخصوص، وكأنها دعوة عمومية جاذبة لكلاب الشوارع وأضرابهم من الآدميين الذين لا يجدون راحتهم إلا وهم يفرغون مثاناتهم في الهواء الطلق، وعلى مرأى من الغادي والرائح.
طبعا هناك هاجسٌ نفسي لهذا السلوك الأرعن، فلا أحد يحب أن يُشَهّر به على الجدران إذا كان ممارسا عتيدا لهذه الهواية، كما أن المغاربة معروفون بالعناد الشديد، فلا يحب أحدهم أن يقال له ما عليه أن يفعله وما عليه أن يجتنبه، خصوصا إذا كان الأمر من البديهيات.
فلا تكاد تمر لوحدك أو مع أهلك ببعض الدروب المنتحية جانباً عن الطريق العام، حتى يصادفك أحدهم (ودائما من جنس الذكور) منتصبا أمام حائط، ومنتعشا بأداء واجبه الوطني بهذه الطريقة، وبعضهم يأبى إلا أن يرتاد لبولته الجدار الذي ينشرح له صدره، فلا يفعلها على أي جدار كيفما اتفق.
لكن الأغرب هم أولئك "المصلحون الاجتماعيون" الذين لم ينفكوا، رغم التجارب التي من المفترض أنها حنّكتهم، يرسمون على الجدران بإصرار تلك العبارة الذائعة الصيت كأن ذلك سيمنحها نوعا من الحماية دون بقية الجدران، بل ويتفنون فيها بين خط كوفي وأندلسي وخط الرقعة.. وبغض النظر عن التلوث البصري الذي تدمغ به المدينة، وقلة الذوق لدى كاتبيها، وما تحمله من إهانة عامة للمواطنين؛ فإنهم لا يدركون أن الذي يبول على حائط في الشارع العام هو أصلا فاقد للحس الأخلاقي ومقتضيات الاجتماع البشري، ولن يأبه كثيرا لعبارة "ممنوع البول" حتى لو أضيف لها كلمة فضلاً أو وشكراً وما شابهها من عبارات التملق الصفراء. أقول التملق، لأن كاتبها، وغالبا يكون من المتضررين من تلك الروائح، يريد أن يقول للبائل "لعنة الله عليك"، لكنه اضطر إلى تغليفها بالشكر لأسباب لا تخلو من مكر أو ما يحسبه مكراً.
فإنهم عندما يفعلون ذلك إنما يزيدون الحائط بللاً وعفناً، لأن بعض عديمي الضمير يكون قد ربى حقدا خاصا على كل ما هو مخالف للقانون أو مزعج للمارة، فلا يزيده ذلك إلا انتشاء وإصراراً على الفعل وتكراره على الجدار نفسه كأنه يجلد برذاذه كاتب العبارة وسكان الحي جميعا.
أعترف أنني فعلتها صغيرا (وكلنا ذاك الصبي، هل تنكرون؟) كتقليد لما يفعله كبارنا في الشوارع حتى الشُّيّاب منهم، وكلنا كان ينادي على فاعلها "هز رجليك" تشبيها له بعادة الكلب في رفع إحدى قدميه أثناء البول. لكنني عندما كبرت، تعلمت أن أتريث حتى أصل إلى البيت أو أقرب مقهى أو محطة قطار، أو حتى مرحاض عمومي إذا حالفني الحظ واهتديت إليه معتمدا على حاسة الشم وحدها.
هذه الأيام، وبعد قرابة عقد من تولي حكومة العدالة والتنمية، سمعنا أن العماري عمدة الدار البيضاء قد اعتزم أخيرا وبعد أن وبّخه ضميره الوطني، وأزكمته روائح العطن المختلطة بملح البحر وهو متجه إلى مكتبه المعطّر كل صباح؛ أن يفرج على الناس كربة أجهزتهم البولية، ويغير عادتهم في البول على الجدران بإنشاء "بيوت للماء" قد تدخل موسوعة غينيس !!. ذلك لأن تكلفتها قدرت بستة ملايير سنتيم !!! حتى يتذكر الناسُ الحزبَ ولو بشيء من الخير وهم يقضون حاجتهم في قصور مرصّعة بالزّبرجَد والياقوت وفصوص الألماس.
وهذا الفتح البولي، لو صح، سيكون حقاً الإنجاز الوحيد لهذه الحكومة المحتقنة. وغالب الظن أنها إشاعة مغرضة، أو على وجه التدقيق، ما يخرج من خزينة الدولة لمصلحة عامة ثم يتحول إلى إشاعة عملية في الواقع، لأن تلك الملايير ستجد طريقها بشكل أو بآخر إلى مراحيض فيلاتهم التي تتطلب طلاءات رخامية باهضة الثمن وأثاث ومرايا مستوردة من إيطاليا وباريس، تماماً مثلما يحدث مع أزمة حافلات النقل التي باتت تحتج على تهالكها وعدم قدرتها على مواصلة العمل بإحراق نفسها ومن عليها أثناء ساعات العمل دون سابق إنذار.