بلَغت الدولةُ العبّاسية عصرها الذّهبي في أيام خلفائها الأولين، وخصوصا [الرشيد، والمأمون]، فاتّسع سلطانُها في أيامهم، وامتدّت سطوتُها على معظم العالم المعمور في ذلك العهد، فبلغت [الهند شرقًا، والبحر الأبيض المتوسط غربًا، وبلاد سبيريا، وبحر قزوين شمالا، وبحر فارس، وبلاد النوبة جنوبًا]؛ لكنْ أصبحت الأحكامُ في ما بعدُ فوضى، وخصوصا بعد [المتوكّل]، حيث عجز الخلفاءُ عن القيام بشؤون الدولة، وهم أصحابها المسؤولون عنها، والأحكام تصْدر بأسمائهم، ينفّذها أربابُ النفوذ في بلاطهم من الوزراء، والقواد، والأعوان في المرافق الحكومية، فإذا ملكَ المسؤولُ منصبًا في الدولة، كان يبذل جهدَه في جمْع الأموال، فعمّ الظلمُ، وفشتِ الرشوةُ، واتسعتْ دائرةُ الفساد والمظالم؛ ويقال بالإجماع إنّ النفوذ أصبح منتشرًا بيْن الوزراء، والقواد، والجباة، وكلّهم يرجون من وراء مناصبهم إلاّ المنفعة لأنفسهم، فأصبح الغرض الأول لكلّ مسؤول في الدولة، إنما هو حشْد المال لنفسه، ولا يهمُّه غيْر الكسب من أيّ طريق كان، ولا يبالي بما قد يترتّب على ذلك في ما بعد، عملاً بالقاعدة التي وضعها [ابن الفرات] وهو رئيسُ الوزراء في ذلك العصر، وهي قولُه: [إنّ تَمْشِية أمور السلطان على الخطإ خيرٌ من وقوفها على الصّواب].. اُنظر كتاب: (تاريخ الوزراء) لصاحبه (الهِلالي الصّابي)؛ صفحة: (119)..
فشتْ أعمالُ المصادرات التي طالت الرّعيةَ، حيث كان صاحب النفوذ يُخْرِجُ الناسَ من بيوتهم، فيدّعي أنّ تلكَ المصادرات هي أوامرُ الخليفة، ثم يبيع تلك الأرض لثري بأبهظ الأثمان، ولـمّا كان المتضرّرون يأتون لمقابلة الخليفة، كانوا يمنعون من ذلك.. كان الوزير يأخذ أرضَ مواطنٍ بالقوّة، ثم يجبره على توقيع عقْد بيْع مزوّر.. كان الوزير يصادر العمّالَ، والكادحين، ويَبْخَسُهم حقوقهم؛ وكان رئيسُ الوزراء يصادر الوزراءَ، ويصادر الناسَ على اختلاف طبقاتهم، حتى أنشَؤُوا للمصادرة ديوانًا خاصّا مثْل سائر دواوين الحكومة، فكان المال يُتداولُ بالمصادرة، كما يتداولُ بالمتاجرة.. فالوزير أو صاحب النفوذ كان يتولّى منصبًا عامًا أو عاميْن، ثم يُعْزَل أو يستقيل، وله عدّة ملايين من الدّنانير، فضلا عن الأراضي، والضّياع، والمباني، وقد اكتسب هذه الثروةَ بالرشوة ونحوِها من أسباب المظالم.. كان الوزير لا يولّي مسؤولاً أو صاحبَ نفوذ ما لم يقبضْ منه مالاً على سبيل الرشوة يسمّونه (مُرافِق الوزراء).. والمسؤول الذي يتولّى عملَه بالرشوة، وهو لا يزال مدينًا ببعضها، يهون عليه ابتزازُ أموال الرّعية، فيأخذ العمّالُ في حشْد الأموال إمّا بالتلاعب في جباية الحكومة، فيُنْفِقون دينارًا في مصلحة الدولة، فيقيّدونه عليها عشرة دنانير، أو باستخراج أموال الرعية بالرشوة، أو بضرب الضرائب الفادحة على الباعة، وأهل الأسواق في المدن، أو بسلب الفلاّحين في القرى بعض غلاّتهم، أو إخراج المواطنين من بيوتهم بدعوى المصلحة العامة للدولة؛ وإذا تكلّم الفلاحُ أو المواطن بسبب ظُلمهِم، شتموه، وألصقوا به شتى التّهم، وحَلَقوا لِحْيتَه، وضربوه، وقد لا يرضيهم ذلك فيغْتصبون الضّياعَ، والبيوتَ والمراعي برمّتِها: اُنظر (تاريخ ابن الأثير)؛ صفحات: 129؛ 200؛ 203؛ جزء: (12).. ومثْلُ هذا ما زال يحْدث ببلادنا في مناطقَ عدّة، فيتمّ التكتّم عليه، وكأنّ الأحوالَ بخير..
والملك العادل في السابق كان له ما يسمّى (ديوان المظالم) يُشْرف عليه رجالٌ صادقون، كانوا هم بمثابة عيْن وأُذن الملك، وكانوا يحيطونه علمًا بأيّة مَظْلمة يتعرض لها المواطنون، فلمْ يَكُنْ يتساهل مع الظّلَمة أو يسكت عن الظّلم في أمّته لذلك قال (ابن خلدون) صاحبُ (المقدّمة): [الظّلم مُنْذِرٌ بخراب العمران].. كان الظُّلم من وراء ما آلتْ إليه دولةُ العبّاسيين في أواخر أيامها.. يجرّنا هذا الجردُ التاريخي العابر لـِما قام به جلالةُ الملك (محمد السادس) نصره الله، يوم الخميس (13 دجنبر 2018)، حيث عيّن مسؤولاً في منصب (الوسيط) لإحقاق الحقوق، ورفْع المظالم، كما عيّن جلالتُه مسؤولاً آخر رئيسًا للهيئة الوطنية للنّزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها؛ لكنّ وسائل الإعلام، وتلفزة الوطن، لم تخصّصْ حلقات لهذا العمل الذي أقدم عليه جلالتُه نصره الله.. فالملكُ الصّالح والعادل يعلم أنّ واجبَه نحْو قومه ورعيته يأتي عنده في المقام الأوّل.. صحيح أنّ بلادَنا عرفتْ مؤتمرات منها مؤتمرٌ حوْل الهجرة، ولكنّ هذه المؤتمرات تهتمّ بها أقلامُ السياسيين والمحلّلين، إلاّ أنّ (ديوان المظالم) و(الوقاية من الرشوة) تجري بها أقلامُ المؤرّخين، لأنّه عملٌ اجتماعيٌ صرفٌ تهتمّ به الرعيةُ أكثر من اهتمامها بغيره، وعلى هذا الأساس، يأخذ الملكُ موقعَه في التاريخ كملك عظيم، ذي حكمةٍ وبُعْد نظر، ثم إنّ العدل هو أساس الـمُلْك..
لقد حكى لنا التاريخُ كيف كانت دولة العبّاسيين قويةً وغنيّة، حيث ازدهر فيها العلمُ، والفلسفةُ، والأدبُ، وكيف كان المواطن يشعر في أحضانها بالسلم، والعدل، والطمأنينة؛ لكنْ لـمّا تولّى فيها المسؤوليةَ زُمَرُ الرشوة، والظلم، والإقطاع، أفَلَ نَجْمُها، وصارت نحو الهاوية، وانهارت من الداخل، وتجاذبتْها القوى الخارجية، وفشتْ فيها الرشوةُ، والمصادراتُ، والمظالم، حتى لإنّ الرعيةَ تقاعستْ عن الدفاع عنها يوم جاء وقتُ الدفاع؛ فتمزّقت الدولةُ، وتحوّلت إلى كيانات قزمية، وتلاعب بها أعداؤُها، واغتيلَ بعضُ خلفائها مثْل الخليفة (المتوكّل)، واستقلّت عنها بعض المناطق، وصار لها حكّامٌ جدد انفصلوا عن الدولة مثل (إبراهيم بن الأغلب) في شمال إفريقيا، استقلّ سنة (184 هجرية)، وصدق (ابن خلدون): [الظّلم مُنْذزٌ بخراب العمران]…