طه لمخير
تعود الطريق إلى الطريق بعد أن درست معالمه وتلاشت أمجاده مع تفكك الاتحاد السوفيتي، ودار الزمن دورته معلنا انتصار الليبيرالية على الشيوعية، وبعد أن أثبتت الرأسمالية أنها نظام قادر على البقاء والتجديد وإصلاح نفسها.
صحيح أن ماركس تنبأ لهذا النظام العالمي المادي بالأزمات المتوالية وعدم الاستقرار واتساع الفجوات بين الطبقات، ونظرته الاقتصادية تحمل كثيرا من النبل الذي لا يسعك إلا تقديره واحترامه، لكنه أخطأ (أو هكذا يبدو) عندما قدر أن النظام الرأسمالي سينهار بسبب تناقضات جوهرية في الأساس الذي بني عليه وهو الحاجة إلى تحقيق الربح.
ها نحن في الألفية الثالثة ولا زلنا نتفيأ ظلاله، وبفضل روح المنافسة ومساحة الحرية التي تمنحها الليبرالية للأفراد والشركات والمؤسسات، وبسبب الرغبة في تحقيق الربح بالذات؛ تمكنت الانسانية من تحقيق طفرات هائلة وتقدم تكنولوجي باهر، ولا شك أن الوضع الصحي و المعيشي العام للبشرية شهد تحسنا ملحوظا على مدى السنوات، وإذا قرأنا المانيفستو نفسه، فسندهش أن ماركس قال في الرأسمالية كلاماً رائعاً لم يقله أحد من أنصارها، لقد كان ماركس نفسه غامضا حول الرأسمالية و لم يخف قط إعجابه بها، وكان على وعي بأنها المنظومة الأشد دينامية وإنتاجية في تاريخ الانسانية .
رفاق الطريق هؤلاء، ليسوا كرفاق نبيلة منيب تماماً، ولا هم تحريفيون كرفاق اليازغي ولشكر، ولا بيساريين متأسلمين، إنهم صنف لا يموت، صامدون حدَّ التهرُّؤ، أحجارٌ أركيولوجية صلدة خاشعة في محراب الدياليكتيك والحتمية التاريخية والصراع الطبقي، هؤلاء لازالوا على العهد مع السلف الصالح؛ الأخ لينين رحمه الله، وتروتسكي قُدس سره..
شخصياً، لديّ نزعة كلاسيكية، أحب التحف الأثرية التي تعود إلى حقبة الستينات وأثاث ومعمار الآر ديكو، وكثيرا ما تساورني فكرة السفر عبر الزمن إلى عقود معينة في التاريخ تستحق أن يزورها الانسان ويستمتع بجوها الوجودي وبأفلامها والأغاني التي كانت رائجة بين الشباب والقضايا التي كانت تشغل الناس، لكنني لم أتصور أن في مقدورنا أن نرى أناسا يزوروننا من تلك الحقب، وها هي الطريق تحقق المعجزة.
هاد الرفاق داخلين صحاح، شيوعيون ديال بصح ماكاينش تخرشيش، هادوك اللي كانشوفوهوم فأفلام الجاسوسية ديال الحرب الباردة قبل سقوط جدار برلين. الخط الذي كُتب به عنوان الجريدة ورسْمُه هو هو لم يغيروه، كما تركه الراحل المرحوم أحمد بن جلون، مع إضافة شعار "صوت من لا صوت له" على غرار "منبر من لا منبر له" سيء الذكر ديال الجزيرة، والذي يوحي أول ما يوحي به ألا صوت يعلو فوق صوت المعركة، والذي يفصح عن تشبع تام وحنين غامر إلى أزمنة النضال في زمن ما بعد النضالية، زمن تغيب عنه- لسوء حظ الرفاق- منظومة البصري وزوار الفجر ودرب مولاي الشريف التي بدونها لا تكتمل أدوات الدعاية البلشفية الحمراء. للأسف، هذا الزمن ليس فيه إلا لفتيت الذي يتلقى أوامره من العثماني للحوار مع النقابات، والمعطي منجب اللي نازل سبّان في المخزن ليل ونهار حتى قرّب ينتف شعرو ولا من يلتفت إليه، زمان البؤس، ما كاين فبوه ما يتناضل، لا حباسات لا قرعة لا شيفون…
المانيفستو، السادة والعبيد، وخطاب العمال والفلاحين، الاستغلال والرأسمالية المتوحشة، وديكتاتورية البروليتاريا والطبقات الكادحة، والرجعية والاستبداد… هي الحروب التي تبشرنا الطريق بخوضها..
"يا أهلاً بالمعارك" والقومية العربية ونظام الحزب الواحد.. هزيمة حزيران/يوليو 67 وديكتاتوريات المعسكر الشرقي والدولة البوليسية.. أهلا بالغولاغ وسيبيريا والأدب الروسي وفرانز فانون ومنظمة القارات الثلاث، والكومونيستا الكوماندانتي شي غيفارا والسيجار الكوبي ومؤامرات مكتب التحقيقات الفدرالي… أهلا بشارع الحب والاغتيالات والحقد الطبقي.
إن الرفاق طازجون، لا زالت مسامّهم الايديولوجية تنفث الأبخرة الحارة كأن آلة الزمن قذفت بهم إلى 2019 من عام 1970، بشعر الهيبّيز وسروال رِجل الفيل والموسطاش الغليظ والنظارات السوداء ذات الإطار السميك…
وفُتح دولاب قديم لفضاء معتم مليئ بالركام والغبار تفوح منه رائحة عتيقة وذكريات، وتتساقط منه أسطوانات ومصطلحات وشعارات الستينات والسبعينات وصور لزعماء وشخصيات وشهداء وطوابع بريدية وحروب الجامعات…
على العموم، ثقتي أن الرفاق لهم حس كبير للدعابة و صدر أكبر من صدر ستالين لتقبل النقد، و نرحب بالمولود الجديد، أو لنقلBenjamin Button الطليعي، الذي ولد عجوزا ثم أخذ يتقلب في دورة الحياة بالمعكوس.