دون مقدمات وخوض في تفاصيل لا طائل وراءها بخصوص الخلاف الدائر بين مالكي هسبريس وبعض مؤسسيها المنشقين عنها (عملاء الإمارات vs عملاء قطر)، وما يدور من حديث عن انشقاقات واهتزازات داخل الجسم الصحافي للجريدة الالكترونية، وبعيدا عن الأشخاص المتورطين في الحدث وحيثيات الخلاف وأبعاده التفصيلية المتشعبة، والغارات التي تشنها الجريدة على المنشقين عنها، وحرب البيانات والبيانات المضادة التي تنضح باتهامات خطيرة بالعمالة والخيانة والتآمر على أمن وسلامة المملكة المغربية، والوشايات الكيدية ونشر الغسيل الذي يرد به المنشقون من خلال حساباتهم على مواقع التواصل متهمين الجريدة بالسقوط الأخلاقي والمهني، ومهددين بنشر كتاب يفضح سيرة مالكيه وعلاقتهم بسفارات أجنبية و ما يدور في كواليس المطبخ الهسبريسي الساخن حيث تحبك السيناريوهات، وتصاغ العناوين، ويروج لكتاب وسياسيين، وتستهدف شخصيات ومؤسسات، وتبيت خطط وتحاك مؤامرات، إلى غير ذلك من فساد ذمم وابتزاز اشهاري وتلقي رشاوي وترويج لأيديولوجيات وإشاعات…
وبعيدا عن روح التشفي والمهاترة التي تدمغ عادة الأجواء المشحونة بالأحقاد والمكائد والدسائس، حيث يغيب أدنى قدر من المصداقية والشفافية، ويتم طمس الدوافع والغايات الحقيقية، وتغلب الرغبة للانتصار للذات وتنحدر الخصومة المحمومة إلى مستويات سوقية غير مهنية ولا مسؤولة.
فإننا نضع ما يجري في سياق إقليمي يشهد استقطابا حادا بين ضلعين خليجيين كلاهما حامل لمشروع إسلاموي يختلف في الشكل دون المضمون، ويشقه صراع نفسي شبه طفولي على الزعامة بين غلمان من بدو الجزيرة يسبحون في بحار من المال ويوظفونها لغزواتهم المجنونة في القرن الواحد والعشرين.
وهذا الاستقطاب أدى إلى شرخ عميق بين العملاء الذين يخوضون حربا بالوكالة لدول إقليمية ذات نفوذ، كل منها لها مشروعها السياسي و الايديولوجي الذي تروج له من خلال أذرعها الإعلامية في بلدان الاستقطاب.
في هذا السياق جاءت الانشقاقات عن موقع هسبريس (الذي تبين أنه لم يكن بريئاً تماما من شبهة التمويل الأجنبي) كتعبير متؤخر (بالنظر إلى الجغرافيا) لكنه متوقع للارتدادات الأزمة الخليجية التي بات واضحا أن لها وقع المغناطيس الجاذب للأطراف ذات الولاءات المتناقضة حتى داخل المؤسسة الإعلامية الواحدة، بحيث يتم الاصطفاف والإنجذاب بشكل فجائي حادّ وصارخ وبطرق دراماتيكية غالباً.
الموقع ليس هو الأول الذي يخضع للفلترة والتصفية والانسحابات التي يتم بعدها تشكيل كيانات موازية تقودها الأطراف المنشقة بإنشاء مراكز ثقل جديدة بالأدوات المنشقة نفسها، نظرا للخبرة التي اكتسبتها في المؤسسة الأم ومعرفتها بطرق الادارة والتسيير وخبايا المطبخ السياسي فيها مما سيمكنها من بناء هيكل إعلامي جديد يعمل بنفس آليات اشتغال الأول ويستخدم نفس الخلطة التسويقية التي يدرك جيدا أنها ناجحة، كما سيظفر بتمويل موازي للأول ومضاد له في الاتجاه .
الجزيرة القطرية(التي تدعم فصيل المنشقين في حالة هسبريس المدعومة إماراتياً) هي أوضح مثال على ذلك، حيث شهدت القناة منذ اندلاع الربيع العربي موجة من الاستقالات لأبرز المذيعين ومعدي البرامج فيها من مختلف الجنسيات خاصة السورية والمصرية واللبنانية والسعودية، ليلتحقوا بقنوات ومؤسسات إعلامية موالية للطرف الآخر (الإمارات أو السعودية أو مصر أو ايران في حالة سوريا).
الذي نود أن نشير إليه هنا، هو أن المشيخات الخليجية التي تعيث في إعلامنا الخاص ريعا وفسادا لها اليد الطولى في المشهد الإعلامي في الشرق الأوسط وشمال افريقيا وتحديدا في القطاع الخاص الذي يعتبر نفسه محايدا ومهنيا ومستقلا، حيث يسهل على الدول الخليجية المتطاحنة شراء ولاءات وذمم صحفيين وكتاب رأي ومدراء مواقع وتوجيههم لخدمة أجنداتها الخاصة والتأثير على خطهم الصحفي والتلاعب بالرأي العام الوطني بحسب أهواء البلدان الممولة في سياق حرب دعائية شمطاء، تستخدم المال والفن والجنس والدين والأيديولوجيا لزعزعة الاستقرار في بلدان منطقة (مينا) والتأثير على القرار السيادي للدولة الوطنية.
أليس من المؤسف والغريب في آن أن يكون لب الصراع عائدا بالأساس إلى ارتهانات الأطراف وجدانيا وأيديولوجيا إلى بلدان خليجية بعيدة كل البعد عن زمننا المغربي وثقافتنا وقيمنا وانتماءنا القومي؟ ألهذا الحد جسمنا الصحفي مخترق وخاضع لأهواء وأمزجة أمراء الخليج؟.
والسؤال الأهم: هل سيتم إطلاق هسبريس جديد بنكهة قطرية كما أعلن عن ذلك المنشقون الذين لهم صلات وثيقة بقطر وأعدوا للأمر بعناية وعلى مهل؟ خصوصا بعد انشقاق العشرات في الأسابيع الماضية وأكثر من عشرين تقنيا في الأشهر الماضية ليشغلوا مواقعهم الجاهزة في هسبريس الجديد الذي على ما يبدو سيكون بداية مرحلة جديدة للتدخل القطري في الشأن الوطني.