|
|
|
|
|
أضيف في 28 دجنبر 2011 الساعة 46 : 15
عمر نجيب:
الاستعمار هو أن تسيطر دولة ما بقوة السلاح أو المال أو بفضل التفوق التقني والعلمي على دولة أو عدة دول، وتستغل مواردها وثرواتها لصالحها وقدرات سكانها، وقد بدأ الاستعمار في عهود مبكرة من الفراعنة والرومان وغيرهم، ومنها الاحتلال العسكري الأسباني في الأمريكتين الشمالية والجنوبية والإنكليزي فيما يعرف اليوم بالولايات المتحدة الأمريكية وكندا، والبرتغال التي استعمرت أجزاء واسعة من أمريكا الجنوبية والمرافئ والمراكز التجارية في عدد من قارات العالم.
وموازاة مع الاستعمار بالقوة العسكرية بدأ الاستعمار المالي بشركات ما وراء البحار والاستغلال والاحتكار لثروات بلدان مختلفة وخاصة في الشرق الأقصى. فقد استطاعت بريطانيا أن تستعمر القارة الهندية بكاملها، فكانت الهند تنتج وتصدر المواد الأولية، من شاي وقطن وتبيع لإنكلترا بسعر زهيد وتعيد إنكلترا للهند القطن منسوجا في مصانعها بسعر مرتفع.
في مرحلة لاحقة، وتقريبا مع تكثف الثورات في البلدان المستعبدة ضد القوى المستعمرة وعملائها المحليين، أدخل تعديل على تعريف الاستعمار، حيث تفيد عدة موسوعات أنه مصطلح يشير إلى ظاهرة سياسية، اجتماعية وثقافية تشمل إقامة مستوطنات أوروبية خارج أوروبا منذ القرن الـ15 واستيلاء الدول الأوروبية سياسيا واقتصاديا على مناطق واسعة في جميع القارات الأخرى، بما في ذلك إخضاع الشعوب القاطنة فيها لحكم الدول الأوروبية واستغلال كنوزها الطبيعية وعمل السكان المحليين لصالح الدول الأوروبية.
مع اقتراب القرن الثامن عشر من نهايته ظل التعريف الأكثر شيوعا للدول الاستعمارية يحصرها في القارة الأوروبية، غير أن الأمور تبدلت بعد أن نشبت الحرب بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسبانيا في العام 1898. الذريعة كانت انفجار البارجة الأمريكية "ماين" في مرفأ هافانا الكوبي ومقتل 260 أمريكيا. وعلى الرغم من أن الحكومة الإسبانية سارعت إلى تقديم اعتذارات وشتى التنازلات، غير أن جهودها باءت بالفشل، علما أن سبب الانفجار بقي مجهولا؛ ويقول مؤرخون إنه مفتعل، فقد أصرت الحكومة الأمريكية على تحميلها المسؤولية، واندلعت الحرب، وتخلت إسبانيا نتيجة هزيمتها عن كوبا وبورتوريكو والفيليبين لصالح الولايات المتحدة.
التوسع الأمريكي
يقول المؤرخون إن جذور هذه الحرب تعود إلى الأطماع التوسعية الأمريكية في منطقة البحر الكاريبي، وإلى ضعف الإمبراطورية الإسبانية التي لم تعد قادرة على السيطرة على مستعمراتها. فلقد كانت كوبا مستعمرة إسبانية وديعة غير أنها شهدت نضالات واسعة من أجل الاستقلال خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وبدءا من سنة 1895 كانت كوبا تعيش أجواء انتفاضة حاول الإسبان بشتى الطرق القضاء عليها.
كان الأمريكيون قد استثمروا 50 مليون دولار في مزارع السكر الكوبية. كما كانت الاحتكارات البترولية الأمريكية وملاك المناجم والاحتكارات الأخرى ترغب في شن حرب ضد إسبانيا. ويضاف إلى هؤلاء كبار العسكريين الأمريكيين الذين كانوا يطمحون إلى السيطرة على المواقع الإستراتيجية الخاضعة لإسبانيا في كل من البحر الكاريبي والمحيط الهادئ، وقد أدت سلسلة الهزائم الإسبانية إلى تحول الولايات المتحدة إلى دولة استعمارية كبرى وقوة عالمية بعد أن كانت قوتها إقليمية.
واشنطن تمسكت بعد تلك الحرب بمقولة إنها قاتلت من أجل تحرير الشعوب وأخذت تنصب من حين لآخر ما تدعي أنهم حكام يمهدون للانتقال الديمقراطي.
في 12 يونيو 1898 أعلن أغوينالدو استقلال الفلبين عن إسبانيا. وتأسست الجمهورية الفلبينية الأولى في العام التالي. في الوقت نفسه، تنازلت إسبانيا عن الجزر الفلبينية إلى الولايات المتحدة مقابل مبلغ 20 مليون دولار في معاهدة باريس لعام 1898. وقد برز بوضوح في ذلك الحين أن الولايات المتحدة لن تعترف بالجمهورية الفلبينية الأولى، وتم افتعال أحداث ومناوشات مما سهل إشعال نار الحرب الأمريكية ضد الفلبين، والتي انتهت بالسيطرة الأمريكية على الجزر بعد ثلاث سنوات من حرب ضروس.
حصيلة تلك الحرب غير المتوازنة كانت مقتل 4324 جنديا أمريكيا وإصابة 2818 آخرين، وفي الجانب الآخر قتل 2000 فرد من الحرس الجمهوري الفلبيني إضافة إلى 16000 جندي من الجيش النظامي، بينما أبيد حوالي مليون مدني فلبيني.
ومن أبرز محطات هذه الحرب إذا جاز إطلاق هذا المصطلح، ما يعرف بمجزرة جزيرة بالانجيجا التي قامت خلالها عناصر القوات المسلحة الأمريكية بقتل عشرات الآلاف من الفلبينيين غالبيتهم من المدنيين وذلك ابتداء من أواخر شهر سبتمبر من العام 1901 ولغاية شهر مارس من العام 1902. وكانت هذه المجازر بإيعاز من الجنرال الأمريكي جاكوب إتش سميث الذي أمر قواته بقتل كل فلبيني يبلغ من العمر أكثر من عشر سنوات، كرد انتقامي لقيام ثوار فلبينيين بنصب كمين لوحدة من قوات الجيش الأمريكي وقتلهم لخمسين جنديا منهم بالقرب من بالانجيجا.
ويعتبر الكمين الفلبيني وما تلاه من تدابير قتل انتقامية من القضايا التي تبقى عالقة إلى اليوم بسبب أجراس كنيسة بالانجيجا الثلاث التي استحوذت عليها القوات المسلحة الأمريكية وترفض إعادتها للفلبين.
الصراع عرف أمريكيا بالعصيان الفلبيني، حتى سنة 1999 عندما أعادت مكتبة الكونغرس تصنيف مراجعها لاستخدام مصطلح "الحرب الفلبينية الأمريكية".
ذرائع الحرب
تاريخ الحروب مليء بالأمثلة التي تظهر أن الأطراف الراغبة أصلا في شن حرب لتحقيق أغراضها تختلق عادة ذريعة تساعدها على ربح المناورة السياسية الداخلية والخارجية قبل وبعد إعلان الحرب، وتجعلها قادرة، إلى حد ما، على تبرير الحرب وإعطائها مظهر الإجراء العادل في بدايته على الأقل.
بعض المؤرخين يقول إن الاستعمار بمفهومه القديم انتهى تدريجيا خلال النصف الأخير من القرن الـ20، ولكنه أخذ أشكالا جديدة خاصة بعد أن أصبحت الولايات المتحدة القطب العالمي الأول بعد نهاية نظام ثنائية الأقطاب بسقوط الاتحاد السوفييتي.
والثابت، وبناء على التجارب التاريخية حتى بداية القرن الحادي والعشرين يتبين أن النظام الاستعماري في جوهره لم يتبدل رغم توالي القرون، الأمور التي تتغير فقط هي الأساليب.
يختلف المؤرخون حول تحديد موعد تحول القوى الاستعمارية الأوروبية إلى تابع للولايات المتحدة تتصرف حسب تعليماتها وتقبل برحابة صدر ما تتركه لها واشنطن من غنائم الحروب أو الغزوات الجديدة، وخاصة تلك الموصوفة بالناعمة، غير أن هناك اتفاقا شبه كامل على أن مرحلة التحول جرت ابتداء من الحرب التي شنتها كل من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على مصر في عام 1956 إثر قيام جمال عبد الناصر بتأميم قناة السويس.
بعد التعثر الأمريكي في حربي أفغانستان والعراق اتبعت واشنطن تكتيكا جديدا للحروب بالوكالة لتوسيع سيطرتها العالمية. الحرب بالوكالة هي حرب يستغل فيها طرف قوى معارضة أو مرتزقة وغير ذلك من التنظيمات كبدائل لقتال طرف خصم بشكل مباشر. وهو حين يفعل ذلك يؤمل أن تستطيع هذه الجماعات أن تضرب الخصم دون أن يؤدي ذلك حرب مباشرة ومتكاملة.
خلال كثير من الحروب بالوكالة كان من الصعب أحيانا جني الثمار كاملة من جانب محركيها لأن الجماعات التي تقاتل لدولة معينة عادة ما يكون لها مصالحها الخاصة، والتي يمكن أن تختلف عن تلك التي تناصرهم.
هناك الكثير من الحروب بالوكالة بعضها قبل الحرب العالمية الثانية، وبعضها بعدها. أحد أمثلة الحروب بالوكالة كانت الحرب الأهلية الإسبانية التي امتدت من 17 يوليو 1936 حتى 1 أبريل 1939، حيث نشب صراع حاد بين القوميين بقيادة الجنرال فرانشيسكو فرانكو، هازمين القانونيين أو جمهوريو الجمهورية الإسبانية الثانية. القانونيون الذين يعرفون أيضا بالجمهوريين كانوا يستمدون دعمهم بالسلاح والمتطوعين من الاتحاد السوفييتي وحركات الشيوعية الدولية والألوية الدولية، في حين تلقى القوميون دعمهم من إيطاليا الفاشية وألمانيا النازية. كانت تلك الحرب تجربة للسلاح ولبناء مواقع استراتيجية وتقسيم النفوذ في القارة الأوروبية.
بعد ذلك أعيدت التجربة طبعا باختلافات أحيانا جوهرية خلال الحرب الأهلية في اليونان ثم كوريا وفيتنام وأفغانستان وأنغولا والشرق الأوسط، وأمريكا اللاتينية.
الإستراتيجية العسكرية الأمريكية الجديدة
بعد التعثر الأمريكي في حربي أفغانستان والعراق، أصدر الجيش الأمريكي يوم الثلاثاء 8 فبراير 2011 أول بيان جديد له منذ سبع سنوات بشأن إستراتيجيته متجاوزا التركيز على الحرب في أفغانستان لمعالجة صعود الصين وتحديات إستراتيجية أخرى. وشددت الإستراتيجية العسكرية الوطنية لهيئة الأركان المشتركة لعام 2011 في بيانها التزام الولايات المتحدة بمكافحة ما سمي التطرف العنيف في أفغانستان وباكستان، ولكنه قال إن على الجيش توسيع آفاقه لمعالجة التهديدات النامية في مناطق أخرى.
وذكر الأميرال مايك مولن، رئيس هيئة الأركان المشتركة، في مدونته "أنه على الرغم من استمرارنا في صقل كيفية مواجهة التطرف العنيف وردع العدوان فإن هذه الاستراتيجية تشدد بشكل صائب على أن قوتنا العسكرية تكون أكثر فعالية عندما توظف بالتنسيق مع عناصر القوى الأخرى".
والاستراتيجية بيان واسع بشأن الطريقة التي ينوي بها الجيش استخدام قواته وإعطاء أولوية للمساعدة والتدريب للمساهمة في تحقيق الأهداف الأمنية للولايات المتحدة.
ويقول مسؤولون عسكريون إن انتهاج أسلوب "الدولة بأكملها" والذي لا يتضمن فقط قوات الأمن، ولكن الدبلوماسية والمنظمات غير الحكومية، سيكون ضروريا لمعالجة التحديات الأمنية في المستقبل.
وعلى الرغم من أن الاستراتيجية العسكرية السابقة والتي صدرت في 2004 كانت تدعو الجيش إلى حماية الولايات المتحدة ومنع الهجمات المفاجئة والانتصار على الأعداء فإن الوثيقة الحالية تتجاوز ذلك؛ فبالإضافة إلى مكافحة التطرف العنيف وردع العدوان تسعى استراتيجية 2011 إلى تعزيز الأمن العالمي من خلال إقامة شراكات إقليمية ودولية، وتهدف إلى إعادة رسم القوة العسكرية لمواجهة التحديات في المستقبل.
وتتناول الاستراتيجية العسكرية الوطنية بشكل عام شروط كيفية استخدام القوات المسلحة. ويجب بمقتضى القانون مراجعتها كل عامين ولكن ليس من الضروري تعديلها ما لم تكن هناك حاجة لإدخال تغييرات.
وذكر مسؤول عسكري كبير أن البيئة الأمنية التي تواجه الولايات المتحدة تغيرت بشكل كبير خلال سبع سنوات منذ إصدار استراتيجية 2004.
وتواجه الولايات المتحدة سلسلة كبيرة من التحديات في منطقة آسيا والمحيط الهادي وأمريكا الجنوبية من صعود البرازيل والأرجنتين والهند والصين إلى البرنامج النووي لكوريا الشمالية وتغير التوازن الاقتصادي العالمي ووجود منافسة شرسة على الموارد الطبيعية.
وتدعو الاستراتيجية إلى تحسين الأمن العالمي من خلال إقامة علاقات أعمق بين الجيوش والتعاون. وقال المسؤول الرفيع إن على الجيش الأمريكي "تحقيق مهمتنا" في العراق وأفغانستان ولكن عليه أيضا أن يتطلع إلى ما هو أبعد من هذين الصراعين و"بدء الاعتراف بأن هناك حاجة للتعامل مع البيئة الإستراتيجية بمناطق أخرى".
الاستعمار الجديد
خلال شهر أبريل 2011 كتب بول كريغ روبرتس الذي كان رئيسا لصحيفة "وول ستريت جورنال"، إحدى أهم الصحف الأمريكية، ومساعدا لوزير الخزانة الأمريكي مقالاً في نشرة "كاونتربنتش" على الانترنت تحت عنوان "الاستعمار الجديد" بدأه بالقول: لا أحد بين المرموقين من محللي شؤون الشرق الأوسط يأخذ على محمل الجد ادعاء الدول الغربية بأن الغرض من تدخلها العسكري في ليبيا هو حماية المدنيين الليبيين من بطش نظام العقيد معمر القذافي، بالرغم من أن هؤلاء يجمعون على أن من الأفضل لليبيين وليبيا انتهاء النظام الذي يتربع القذافي على قمته منذ أكثر من نحو 42 عاما.
إن ما نشهده في ليبيا هو الولادة الجديدة للحركة الاستعمارية، لكنها هذه المرة لا تتمثل في حكومات أوروبية فردية تتنافس على الامبراطوريات والموارد؛ إن الحركة الاستعمارية الجديدة تعمل تحت غطاء "المجتمع الدولي"، ما يعني حلف شمال الأطلسي "ناتو" وتلك الدول التي تتعاون معه. وكان "ناتو" في وقت من الأوقات تحالفا دفاعيا ضد غزو سوفييتي محتمل لأوروبا الغربية، واليوم يقدم "ناتو" قوات عسكرية نيابة عن الهيمنة الأمريكية.
تسعى واشنطن إلى الهيمنة العالمية تحت ستاري "التدخل لدواع إنسانية" و"جلب الحرية والديمقراطية إلى الشعوب المضطهدة". وعلى أساس انتهازي، تستهدف واشنطن بلدان للتدخل ليست من "شركائها الدوليين".
لقد جعل القذافي نفسه هدفا بوقوفه في وجه الحركة الاستعمارية الغربية. ورفض أن يكون جزءا من "القيادة الأمريكية لأفريقيا!! إذ اكتشف حقيقة الخطة، وهي أنها خطة مستعمر يسعى لتطبيق سياسة فرق تسد".
في سنة 2007 وبأمر من الرئيس جورج بوش وضعت خطط القيادة الأمريكية في أفريقيا، ووصفت "أفريكوم" أهدافها كالتالي:
"إن مقاربتنا تقوم على أساس دعم مصالح الأمن القومي للولايات المتحدة في أفريقيا، كما بينها الرئيس ووزيرا الخارجية والدفاع في استراتيجية الأمن القومي والاستراتيجية العسكرية القومية. إن للولايات المتحدة والدول الأفريقية مصالح متبادلة قوية في تشجيع الأمن والاستقرار في قارة أفريقيا، وجزرها المستقلة ومناطقها البحرية. وتتطلب رعاية هذه المصالح مقاربة موحدة تدمج جهودها بجهود الوزارات والوكالات الحكومية الأمريكية الأخرى، وكذلك جهود شركائنا الأفريقيين والدوليين الآخرين".
الطابور الخامس
في ما سمي الاستراتيجية الأمريكية الجديدة التفاتة لأهمية المنظمات غير الحكومية، والمقصود تلك التي تخضع لتوجيهات واشنطن والتي لا يمكنها الاستمرار بدون دعمها المادي.
تقول دراسة عربية إنه بعد فضيحة إيران كونترا غيت في ثمانينيات القرن الماضي بدأت الإدارة الأمريكية تبحث عن خطط جديدة لاختراق الدول وتدعيم الحركات والأحزاب المعارضة، وهو ما عرف باسم حرب الأفكار، ونشطت المعاهد الأمريكية في البحث عن صيغة جديدة، الهدف منها تلافي أخطاء وكالة المخابرات ومشاكل تورط الإدارة الأمريكية في الحروب المكلفة، وانتهت الدراسات إلى أن الأسبقية يجب أن تعطى للاختراق عبر ما يسمى منظمات المجتمع المدني، بحيث تقوم هذه المنظمات المدعومة والموجهة أمريكيا بصورة سرية بالعمل بشكل شرعي لتأتي بنتائج كانت تكلف بها المخابرات. وهكذا أصبحت تلك المنظمات تلعب فوق المنضدة نفس الدور الذي كانت تلعبه المخابرات من تحت المنضدة.. المشكلة أن كثيرين تأخذهم البراءة الوطنية ولا يدركون ما يحدث حولهم، وأن بعض ما يمر أمامهم ليس بهذه البراءة لكنه صناعة أجهزة ومؤسسات تمويل لها أهداف أخرى.
وكما تكشف العديد من الوثائق الأمريكية فقد كانت هناك أهداف أخرى لزعزعة استقرار أنظمة وحكومات معادية للمصالح الأمريكية. وقد كانت هذه العمليات معروفة وواضحة إبان الحرب الباردة بين القوتين العظميين في فترة ما بعد الحرب العالمية، وعندما سيطرت أمريكا كقوة عظمى ووحيدة اعتقد العالم أن الاستقطاب والتدخل المباشر وغير المباشر قد أصبح من أساليب من الماضي، غير أن ما حدث كان أخطر بكثير مما كان إبان الحرب الباردة.
إن عمليات التدخل تتم الآن تحت غطاء عناوين براقة وخادعة، مرة بدعم حقوق الإنسان وأخرى لدعم الديمقراطية، وثالثة حقوق المرأة والطفل وحتى مثيلي الجنس... وهي عناوين مقصودة لخداع الرأي العام!! والأخطر من هذا وذاك أنها تتسلل إلى كثير من المجتمعات خلسة بعيدا عن أجهزة الدولة الرسمية، ويبدأ التعامل المباشر بين الصناديق الأمريكية ومنظمات المجتمع المدني مباشرة بدون حسيب ولا رقيب لا في الدول المستهدفة ولا حتى داخل الولايات المتحدة، وأصبحت بعض الصناديق والهيئات تمثل وزارة خارجية أمريكية موازية بعيدا عن رقابة الكونغرس الذي يمول بعض هذه الصناديق.
الأرشيف البريطاني
خلال شهر ديسمبر 2011 استعانت صحيفة "الغارديان" بالأرشيف البريطاني الذي رفعت عنه السرية لتصل إلى نتيجة مفادها أن الغرب لن يمل في سعيه للسيطرة على الشرق الأوسط، مهما كانت العقبات، وأن الولايات المتحدة تحاول ركوب حركة التحول والإصلاح في المنطقة الممتدة من الخليج العربي حتى السواحل الأفريقية على المحيط الأطلسي لتخرجها عن مسارها الطبيعي، ولتحولها إلى ما يسميه المحافظون الجدد فوضى "خلاقة" وأداة لتفتيت الكيانات القائمة.
وأعادت "الغارديان" إلى الذاكرة سنوات الاستعمار الغربي للبلدان العربية بعد تقسيمها مشيرة إلى أن جزءا كبيرا مما يجري الآن تكرار لممارسات مضت. وذكرت الصحيفة أن على الدول العربية، إن أرادت أن تتحكم في مستقبلها، فعليها مراقبة ماضيها القريب وتجارب سنوات الاستعمار الغربي لبلدانها.
وقالت في تقرير تاريخي موسع إن هذه التحولات التي انطلقت شرارتها الأولى في تونس، ركزت على الفساد والفقر وانعدام الحريات، وليس على الهيمنة الغربية أو الاحتلال الإسرائيلي.
وتوصلت في تقرير كتبه "شايماس ميلن" بالاستعانة بالأرشيف البريطاني "باثي نيوز" المدعم بالأفلام والصور الأرشيفية للأحداث التاريخية التي مرت على البلدان العربية ومقارنتها بالوضع العربي الراهن، إلى سبعة دروس تربط علاقة الغرب بالعرب والجهود الاستعمارية المتكررة للسيطرة على الشرق الأوسط.
وقال "هناك شعور حقيقي لدى السكان في المنطقة أكثر من أي بقعة أخرى من العالم المستعمر سابقًا بأن الشرق الأوسط لم يحصل على استقلاله بالكامل، وبسبب تربعه على عرش مخزون البترول الأكبر في العالم، تم استهداف العالم العربي بتدخلات وغزو مستمرين، حتى بعد حصوله رسميا على الاستقلال".
وبعد تقسيمه إلى دول صورية بعد الحرب العالمية الأولى، تم قصف واحتلال أجزاء منه بواسطة الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل وبريطانيا وفرنسا، كما تمت محاصرته بالقواعد الأمريكية وأنظمة استبدادية مدعومة من الغرب.
وذكر التقرير بالمحاولة الأخيرة التي سعت فيها الدول العربية إلى الخروج من المدار الغربي في الخمسينيات من القرن الماضي، تحت تأثير فكرة الوحدة العربية التي أطلقها جمال عبد الناصر، وركز عليها في يوليو عام 1958، حين أطاح ضباط جيش عراقيون قوميون بنظام وصف بـ"الفاسد والقمعي والمدعوم من الغرب ومحمي من قِبل القوات البريطانية". وأصاب طرد النظام العراقي الموالي للغرب والموثوق به، "باثي" بالفزع. فأطلقت صيحة تحذير في أول تقرير إخباري لها تعليقا على الأحداث مؤكدة أن العراق الغني بالبترول أصبح "منطقة الخطر الأولى".
وفي غضون أيام قليلة حركت بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية آلاف الجنود إلى الأردن ولبنان لحماية اثنين من الأنظمة من الثورة الناصرية. وكما تقول "باثي نيوز" في تقرير لها، لغرض" إيقاف سريان الفساد في الشرق الأوسط" أي امتداد ثورة العراق إلى دول الجوار.
وبالتقدم سريعا لعام 2003، نجد أن بريطانيا وأمريكا استطاعتا غزو واحتلال هذه الدولة بالكامل. وأخيرا عاد العراق تحت سيطرة غربية كاملة على حساب دم شعب تمت إراقته بوحشية ودمار.
ويضيف التقرير "إن قوة المقاومة العراقية هي التي أدت إلى رحيل القوات الأمريكية رسميا نهاية ديسمبر 2011، ولكن حتى بعد الانسحاب، سوف يظل 16000 مقاول ومدرب وآخرين تحت إمرة الولايات المتحدة. ففي العراق، كما في باقي المنطقة، لا يرحلون إلا إذا أرغموا على ذلك".
وذكر التقرير أن القوى الاستعمارية عادة ما تخدع أنفسها بشأن حقيقة ما يفكر فيه العرب. وتساءل "هل من الممكن أن يكون مقدم "باثي نيوز" والمحتلون الاستعماريون اليوم قد صدقوا بالفعل أن آلاف العرب عندما أمطروا الثناء المرعب على الديكتاتور الفاشي موسولينى، عندما قام بجولة في شوارع طرابلس في المستعمرة الإيطالية بليبيا في عام 1937، كانوا بالفعل يعنون ذلك؟. قد لا تظن ذلك عندما تنظر إلى وجوههم الخائفة". وأرفق التقرير صورة أرشيفية وفيلماً لزيارة موسوليني إلى ليبيا تظهر صفوفا من الليبيين يرحبون به.
وأشار إلى أنه لا توجد أدنى إشارة في الفيلم الإخباري إلى أن ثلث سكان ليبيا قد ماتوا تحت وطأة الحكم الإيطالي الاستعماري الوحشي، ولا عن حركة المقاومة الليبية البطولية التي قادها عمر المختار، والذي شنق في معسكر اعتقال إيطالي. ولكن بعد ذلك يصف التعليق الصوتي، أو "القناع الاستعماري"، موسولينى بأنه كالساسة البريطانيين في ذلك الوقت.
تقرير "باثي" عاد إلى تشبيه زيارة الملكة البريطانية للمستعمرة البريطانية آنذاك في عدن بعد سنوات قليلة قائلا "كان مشابها على نحو مخيف، مع "آلاف من الرعايا" المخلصين السعداء يقدمون ترحيبهم المفترض لملكتهم والذي وصفته بفرح بأنه مثال غير مسبوق في التطور الاستعماري".
وبالفعل كان غير مسبوق حيث إنه بعدما يقرب من قرن أجبر رجال حركات التحرير اليمنية القوات البريطانية على إخلاء آخر موقع من الإمبراطورية بعد ما تعرضوا للضرب والتعذيب والقتل. ويشرح جندي مشاه سابق في وثائق "بي بي سي" 2004 عن عدن أنه لا يمكنه الخوض في التفاصيل بسبب خطورة اتهامات حول جرائم الحرب.
أوهام نصر سهل
توقع حكام واشنطن من اليمينيين المتطرفين أمرا سهلا في العراق، ورأينا في التغطية الأمريكية والبريطانية للغزو في البداية أنه كان لا يزال هناك عراقيون يلقون الورود على قوات الغزو رغم أن المعارضة المسلحة كانت تتدفق بالكامل لتحويل وجود المحتل إلى جحيم معبرة عن موقف غالبية الشعب.
وأورد التليفزيون البريطاني مؤخرا تقريرا عن أن القوات البريطانية "تحمي السكان المحليين" من طالبان في أفغانستان، وهذا يمكن أن يكون تذكيرا على نحو مذهل بالأفلام التسجيلية من الخمسينيات من أكاذيب تبرير الغزو والاستعمار في عدن والسويس.
وكتب " شايماس ميلن" أن القوى العظمى لديها أيادٍ خبيرة في شيطنة الأنظمة التي تعمل على إسقاطها أو تجميل الأنظمة العميلة لإبقاء تدفق البترول وأرباح الشركات الكبرى.
ومثلا تم التلاعب بالانتخابات وتعذيب آلاف المعتقلين السياسيين في الخمسينيات بالعراق. ولكن عندما يتعلق الأمر بطبقة الموظفين البريطانيين الذين ترسخ وضعهم باعتبارهم "المستشارين الحكوميين" في بغداد وقاعدتهم العسكرية في الحبانية والأفلام التسجيلية المعروضة في دور السينما البريطانية في ذلك الوقت، كان العراق في عهد فيصل يعد دولة ديموقراطية مسالمة و"ناجحة".
البترول
وسلط فيلم من الأرشيف البريطاني الضوء على حقول البترول في البصرة عام 1952 التي كانت تحت مراقبة السفراء الأمريكيين والبريطانيين و"السيد جيبسون" لشركة الوقود البريطانية العراقية، حيث يمكننا أن نرى حسب محرر الغارديان رئيس الوزراء العراقي، نوري السعيد، يفتتح حقل بترول "الزبير" بالقرب من البصرة في عام 1952 مؤكدا أن ذلك لبناء "المدارس والمستشفيات" من خلال "عمل مشترك بين الشرق والغرب".
ويضيف تقرير "الغارديان" "في الواقع سوف يحدث ذلك فقط عندما يتم تأميم البترول، وقبل ذلك بست سنوات تم اغتيال السعيد في شوارع بغداد عندما حاول الهروب مرتديا زي امرأة، وتم تأميم البترول رغم أنف الغرب. وبعد مرور نصف قرن عاد البريطانيون للسيطرة على البصرة، وبينما يحارب العراقيون اليوم لمنع الاستيلاء على آبار بترول بلدهم المشتت، يصر الساسة الأمريكيون والبريطانيون مرة أخرى على الديمقراطية". ونبه إلى أن أي دولة عربية تتخلى عن حق تقرير مصيرها بنفسها من أجل احتضان الغرب يمكن بالفعل أن تتوقع مصيرا مشابها.
ودعت صحيفة "الغارديان" في تقريرها المتوقع أن يثير جدلا، شعوب الشرق الأوسط ألا تنسى تاريخها حتى لو نسيت الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا ذلك.
وتناول التقرير أوضاع إيران مسلطا الضوء على أكثر من قرن من التدخل والاستعمار والتدمير غير الديمقراطي البريطاني الأمريكي. وأُرفق ذلك بفيلم عن الإطاحة بالرئيس المنتخب ديمقراطيا محمد مصدق عام 1953 ومحاكمته بعد أن قام بتأميم البترول الإيراني.
وتم في ذلك الحين وصف المتظاهرين المؤيدين لمصدق بالعنف والتدمير والإرهاب، بينما نظمت المخابرات البريطانية والأمريكية انقلابا لطرده في مقابل الترحيب بالشاه باعتباره شخصية محبوبة و"تحولا دراميا للأحداث".
وألقت الأفلام التسجيلية اللعنات على "الديكتاتور الافتراضي" المنتخب مصدق، والذي أعلن أثناء محاكمته اللاحقة بتهمة الخيانة العظمى عن أمله في أن يصبح مصيره مثالا "لكسر قيود عبودية الاستعمار". وتم تقديم الديكتاتور الحقيقي كحاكم عادل للشعب، وهو الشاه المدعوم من الغرب الذي تم التخلص منه بعد ذلك بنحو 26 عاما.
تحريف الحقائق
وتوصل التقرير الصحفي إلى أن الغرب يقدم دائما العرب الذين يصرون على إدارة شؤونهم الخاصة كمتعصبين ودكتاتوريين. ففي الخمسينيات أدانت الحكومات الاستعمارية وداعموها بطبيعة الحال الحركات المناهضة للحكم الاستعماري الفرنسي بالمغرب العربي بوصفها حركات متطرفة وإرهابية".
وتوقع تقرير الصحيفة البريطانية أن يأتي التدخل العسكري والسياسي والمخابراتي الأجنبي في الشرق الأوسط بالموت والدمار والتقسيم. وقال "ليست هناك حاجة للبحث في السجلات التاريخية لاستنتاج تلك الحقيقة. فتجربة العقد الأخير واضحة بشكل كاف، وسواء كان ذلك غزوا واحتلالاً بشكل كامل مثل العراق، حيث تم قتل مئات الآلاف، أو قصفا جويا لتغيير النظام تحت شعار "حماية المدنيين" في ليبيا، حيث تم قتل عشرات الآلاف، فقد كانت الخسائر البشرية والمادية كارثية".
وأضاف "كان هذا هو الحال طوال التاريخ المشؤوم للتدخل الغربي في الشرق الأوسط. ويمكن لفيلم "باثي" الصامت لتخريب دمشق على يد القوات الاستعمارية الفرنسية خلال الثورة السورية عام 1925 أن يقدم صورة شبيهة للفلوجة في عام 2004 أو سرت خريف سنة 2011 وذلك بغض النظر عن الطرابيش والخوذات". ويعرض مع هذه الفقرة رابط فيلم عن دفاع دمشق عام 1925 ضد الغزو الفرنسي من الأرشيف البريطاني.
ويقول "بعد ثلاثين عاما بدت بورسعيد في وضع مشابه خلال العدوان البريطاني الفرنسي على مصر عام 1956 الذي ميز أفول نجم الدول الاستعمارية الأوروبية السابقة لتحل محلها الولايات المتحدة كقوة مسيطرة في المنطقة".
ويضيف التحليل "يمتلئ أرشيف "باثي" بالأفلام التسجيلية التي تروج للقوات البريطانية باعتبارها تعمل على الحفاظ على السلام بين الطوائف المتناحرة، من قبرص حتى فلسطين، ولكن الحقيقة أن كل هذا كان لصالح استمرار السيطرة".
ويقول "الآن تعمل التقسيمات الطائفية والعرقية التي فرضت تحت الاحتلال الأمريكي البريطاني للعراق والتي تم حشدها بواسطة حلفاء الغرب في الخليج للتخلص من تحديات الصحوة العربية أو تحويل مسارها.
واختتم تقرير صحيفة "الغارديان" نتائجه بالقول إن "الرعاية الغربية للاستعمار في فلسطين هي عقبة دائمة في وجه العلاقات الطبيعية مع العالم العربي". وأضاف "كان يمكن ألا يتم إنشاء دولة إسرائيل لولا الحكم الاستعماري لبريطانيا الذي دام ثلاثين عاما في فلسطين ورعايتها للاستعمار الأوروبي اليهودي على نطاق واسع تحت شعار وعد بلفور عام 1917، وكان من الواضح أن فلسطين المستقلة ذات الأغلبية الفلسطينية العربية لم تكن لتقبل بهذا أبدا".
ويرفق مع هذه الفقرة فيلما عن القوات البريطانية في نابلس، عام 1939. ويعرض له بالقول "تتجلى الحقيقة المقنعة في هذا المقطع "لباثي نيوز" من وقت الثورة العربية ضد التفويض البريطاني في نهاية الثلاثينيات حيث يعرض الجنود البريطانيين وهم يحاصرون الفلسطينيين "الإرهابيين" في مدينتي نابلس وطولكرم تماما كما يفعل خلفاؤهم الإسرائيليون اليوم".
ويقول "إن سبب شعور المستوطنين اليهود بالأمان، كما يعلن المقدم ذلك بنبرات حادة لاهثة في التعليق الصوتي المميز لفترة الثلاثينيات، هو "القوات البريطانية اليقظة دائما، والحامية دائما". وانهارت العلاقة ظاهريا ومسرحيا بعد تقييد بريطانيا للهجرة اليهودية إلى فلسطين عشية الحرب العالمية الثانية".
لقد كان موقف الفعل الاستعماري لبريطانيا، في فلسطين وفي أماكن أخرى، هو دائما الظهور باعتبارها "راعية القانون والنظام" ضد "تهديد الثورة" و"سيدة الموقف" كما يبدو في هذا الفيلم الإخباري المضلل عام 1938 من القدس.
|
|
3122 |
|
0 |
|
|
|
هام جداً قبل أن تكتبو تعليقاتكم
اضغط هنـا للكتابة بالعربية
|
|
|
|
|
|
|
|