المختار لغزيوي
للأمانة ليس واضحا بالنسبة لي شكل معالجة موضوع صور النائبة ماء العينين، إن صح أن نسمي مثل هذا الضجيج المقام حول صورها موضوعا أصلا…
من جهة هناك الشعور البدائي وغير المقبول بالتشفي الذي شعر به عدد كبير من المنتمين لقبيلة الحداثة أو من الذين يدعون هذا الانتماء، لكنه بالفعل شعور بدائي ومتخلف ولا يفي بالغرض، ويقترب بشكل كبير من رد فعل الإسلاميين عندما يقع خصم لهم في شراك ما ظل يتحدث عنه أو يناقضه باستمرار.
ومن جهة هناك الانتصار لشعور الحرية الشخصية، الذي يفرض عليك أن تحترم إنسانا يرتدي ملابس تروقك، ويفرض عليك في الآن ذاته احترام الآخر الذي يرتدي ملابس قد لا تلائم ذوق سعادتك، مما يسميه الآدميون مكتملو النمو : الاهتمام بالشأن الخاص والإعراض عن شؤون الآخرين، مما يحسمه الوالدان في العمر الأول من العيش ويطلق عليه الناس إسم التربية الحسنة بكل اختصار.
لكن هذا الشعور هو الآخر يصطدم بعدم قدرة الإسلاميين مرة أخرى - والأستاذة النائبة جزء منهم - على ممارسة هذا الاحترام. ماذا وإلا فإننا من الممكن أن ندفع بآلية احترام الخصوصيات هاته، التي اكتشفها البعض على كبر، إلى الحد الأقصى، والقول مثلا لا حصرا إن الشخص الذي ضبط ليلة رأس السنة مرتديا لباسا نسائيا هو الآخر يملك مثل النائبة المحترمة تماما نفس الحق في ارتداء مايروقه، ولا أحد يحق له أن يفرح باعتقاله ولا أن يمثل بصوره ولا أن يشوه سمعته لأنه لم يضر أحدا، بل مارس حرية شخصية لا دخل لأي واحد منا بها.
في هذا الصدد، مقدار التناقض بين مانرفعه من شعارات في مجال احترام الحريات، وبين حقيقتنا عندما تزعجنا هاته الحريات هو مقدار صارخ، وظالم، وجاهل .
مقدار صارخ، لأنه يضعنا في لحظات معينة أمام المرآة، دونما رتوشات خادعة، دونما عمليات تجميل فاشلة، ودون أي قناع من الأقنعة الاجتماعية التي نظل نرتديها علنا والتي عندما تزول عنا في السر نرتكب الكثير مما نعطي للآخرين دروسا في الابتعاد عنه.
ومقدار ظالم لأن تيارا بأكمله، هو التيار الإسلامي شعر بالحيف اليوم والسيدة النائبة المحترمة تتعرض لهذا القصف، لكن نفس التيار لم يشعر في يوم من الأيام أنه فضولي، أو أنه يحشر أنفه في أمور لاعلاقة له بها عندما يتهم متفرجين في مهرجان غنائي ما بأنهم "مجموعة من الفاسقين"، أو عندما يقرر منع فيلم سينمائي علما أن الدخول إلى السينما هو حرية شخصية تؤدي مقابلها ولا يحق لأحد أن يمنعك من رؤية ماتريد، أو عندما يتهم كل من لايرى الدنيا بمنظاره بأنه متهتك عربيد قليل الحياء وعديم الأخلاق…
ثم هذا المقدار من التناقض جاهل، لأنه مبني على عدم قدرة أغلبنا على التمييز بين ماهو شأن عام من حقك، بل من واجبك، أن تتحدث عنه ليل نهار، لأنه يهم تدبير أمور عيشنا المشترك، وبين ماهو شأن خاص لا يحق لك - سيدي الفضولي سيدتي الفضولية - أن تعطي فيه رأيك وإن كان أحصف الآراء في العالم وجودا.
وإذا كان هناك من حسنة لنقاش مثل هذا - على افتراض مرة أخرى أن الحديث عن ماء العينين هو نقاش (وهذه مسألة فيها نظر بالعينين وببقية الحواس) - فهي حسنة إجبارنا بشكل جماعي على التفكير في هاته الحكاية التي تزعج أغلبنا، وهي حكاية الحرية..
ستستقيم الأمور فقط عندما سنشرع في قولها لأنفسنا بكل وضوح: لا علاقة لي بمايفعله الآخرون إذا كان هذا الذي يفعله الآخرون لا يهمني ولا يمسني من قريب أو من بعيد.
وبالنسبة لمجتمع يجلس نصفه في المقهى، أي الرجال، لتسقط آخر الأخبار و"باش يجيبو الكديدة وهي باقية فميكتها"، فيما يجلس النصف الآخر أي النساء في الحمام أو عند "الكوافور" لإكمال النصف الآخر من هاته « الكديدة » اللعينة، فإن المسألة صعبة جدا لأننا نتربى وسط فضول عام على الاهتمام بأمور الآخرين، وعلى استراق السمع والبصر، وعلى عديد الكوارث التي ترتبط بانعدام أو نقص التربية أكثر من ارتباطها بأي شيء آخر.
وهذه التربية المعوجة، لا علاقة لها بدين ولا بأخلاق، لأن الدين ينهى عن التلصص، ولأن الأخلاق الحقيقية والحميدة تفترض عكس التلصص أي احترام الآخرين.
الحكاية لها علاقة بتشوه آخر من تشوهات المجتمع، نرعاه بأميتنا التقليدية عبارة عن فضول شعبي عارم وجاهل. ثم أتت سنوات الانحطاط، وهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الكاذبة، أو اللجان الشعبية، أو المطاوعة، أو مطبقي شرع اليد لكي تضفي على هذا الفضول والتطفل الشعبيين بهارات دينية وتحوله إلى طريقة من بين طرق النهي عن المنكر كذبا والأمر بالمعروف زورا وبهتانا.
المرة المقبلة وعندما يريد فرد من أفراد التيار الإسلامي أن يضرب إنسانا لأنه وجده يفطر رمضان، أو لأنه التقى به وهو يرتدي زيا نسائيا، أو لأنه ضبطه رفقة صديقة أو صديق له في مكان فارغ عليه أن يتذكر هاته الصورة التي خرجت من العدم، والتي لها قصة تستحق ذات يوم أن تروى بالكامل وبالتفاصيل وليس بتناقض التناقضات التي خرجت حتى الآن، وعليه أن يقول لنفسه إن احترام الحريات الشخصية الذي أصبح ينادي به الآن في حق أخته في الحزب والحركة والتيار، هو احترام يجب أن يسري على الجميع دون أي استثناء، أي على بقية إخوته وأخواته في الإنسانية كلها.
فيما عدا ذلك علينا أن نعترف بها لبعضنا البعض: نقاشاتنا سائرة من منحدر إلى منحدر أكثر انحدارا منه، بحمد الله ورعايته وهو تعالى الذي لا يحمد على مكروه سواه. ولا شيء في الأفق يبشر أننا سنوقف عملية النزول هاته في القريب العاجل، لذلك لا بأس من توقع الأسوأ، وانتظار المزيد...