والله إني لأشعر بالأسى العميق، ممزوج بالخجل، بالإضافة إلى المرارة والحسرة على ما أصاب سيفَ العدل من عُطالة، وما تعاني منه أحكامُ الله عزّ وجلّ من إبطال، وإهمال في هذه الأمّة التي ما زالت في انحدار إلى هوّة سحيقة لا بارقة من أمل فيها.. تراهم يقيمون المهرجانات، ويروّجون للتفاهات، وينفخون في حدث كما يُنْفَخ في البالون ليتضخّم حجمُه، فيما حدثٌ داعرٌ، وعملٌ فاجرٌ، يهدّد سفينة الأمّة، ويحطّ من كرامتها، وجريمة نكراء يهتزّ لها عرشُ الرّحمان، تراهم لا يأتون على ذكْرِها إلاّ لمامًا.. منذ أيّام في الأطلس، قُتِلتْ بطريقة وحشية، فتاتان في ريعان الشباب؛ فتاتان إحداهما دانماركية، والأخرى نرويجية، بدون سبب، إلاّ لأنّهما عشقتا بلادَنا، ونزلتا ضيفتيْن علينا، تحْملان الإعجابَ بطبيعة بلدنا الخلاّبة، إلى جانب العمْلة الصّعبة، بالإضافة إلى ما لسياحتهما من دعاية وإشهار، ما أحوج البلدَ إليهما؛ ثم كان الله في عون جاليتنا بالبلدان الأسكنديناڤية.. هذه الجريمة هي تعبير عن فشل المنظومة التربوية، والمؤسسات الدينية، وإهمال الأسرة باعتبارها الخلية الأولى للمجتمع، مع طمأنة القاتل على حياته، وتعطيل عقوبة الإعدام؛ كلّ ذلك جعل الحياة غير ذات قيمة، وما هي إلاّ البداية..
ماذا تعني هذه الجريمةُ البشعة وغيْرها بلا استثناء؟ إنّها تدلّل على حقيقة صادمة هيهات أن تخفيها المهرجاناتُ الراقصة، أو المواسم الدّينية، أو تهريج (الطّبالة) في التلفزة.. هذه الحقيقة ماثلة تحت الأنوف، وهي تدلّل على إخفاق سياسة التنمية التي لم تستهدف المواطن عقليًا وروحيا ونفسيا كمشروع بهدف خلْق ما يسمّى (الإنسان) في هذا البلد.. يتحدثون عن التنمية البشرية، ويطبّلون لها، ولكنْ هذه التنميةُ المزعومة ما استهدفتِ البشر باعتباره مادّةً خامًا، لتحوِّله إلى إنسان؛ بل هي تنمية يسعى من ورائها الكذّابون، والمنافقون، إلى ملْءِ الجيوب، ثم يرحلون.. فمؤسساتنا التربوية أعلنتْ عن فشلها منذ زمان، بدليل أنّ التلاميذ يحملون السلاحَ الأبيض داخل الأقسام، وكم من جريمة ارتُكبتْ في ساحة المدرسة.. والمتأنّقون بوشاح دينٍ زائف، تجدهم هم المرتكبين لأبشع الجرائم النكراء.. والمتحزِّبون الكذَبة، يتصارعون على المناصب، ويدّعون خدمةَ الوطن.. أمّا الأسَر، لعدم الاهتمام بتوعيتها، فقد استحالتْ في مجرّد باسيونات للمبيت ليلاً، ولا يمكنها أن تنشئَ جيلاً طيّبَ الأعراق، أضِفْ إلى ذلك ما تخلقه السياسةُ المتَّبعة من متاعبَ مادية للأسرة، ممّا يصرفُها عن الاهتمام بتربية الأبناء، وتركيزها فقط على الجانب المادّي والمعيشي، تماما كما أراد لها مخطِّطو السياسة في هذا البلد؛ ويكفي أن تلْقي نظرةً على تشكيلة الحكومة، وتركيبة البرلمان، لتدركَ حقيقةَ هذه السياسة النكراء.. فمن سيكوّن الإنسان في هذا البلد يا ترى؟
إنّ هذه الجريمة لتخْدش وجهَ المغرب كأمّة إسلامية، وكشعب، وكمجتمع.. هذه الجريمة ستكون لها انعكاساتٌ بائسة، وتداعيات، وكانت ضحيتها دولتان متقدّمتان هما النرويج والدانمارك.. هذه الجريمة ستكون لها نتائجُ سلبية على السياحة، وبدلاً من الانتعاش ستعرف الانكماش.. المنافقون يجهلون أنّ الإعلام في البلدان الأسكنديناڤية له تأثيرٌ فعّال في تلك المجتمعات الراقية، والأنيقة، والنظيفة، والمتقدّمة؛ ويوم مراسم دفْن الضحيتيْن، سيكُون المشهد مؤثّرًا، وحزينًا، وسيحذّر إعلامُهم كلّ المواطنين من اختيار المغرب كوجهة سياحية؛ فلا حديث في الأوساط، ولا حديث في وسائل الإعلام، ولا صور على أغلفة المجلاّت، إلاّ وهي تتحدث عن الفتاتين المقتولتيْن من طرف وحوش بشرية في المغرب؛ وستنجَز القصصُ، وستُمْتشَق الأقلامُ، لسرْد الواقعة، وستقدّم صورٌ حزينة للفتاتين في كافة القنوات، وسيحضر ممثّلاَ الملكيْن وأعضاء الحكومتيْن، والبرلمانين، لتقديم التعازي، وسيقام قُدّاسٌ ديني رهيبٌ في الكنيسة، ونحن بدورنا نتقّدم بالتعازي الحارة لذوي الفتاتين البريئتين في النرويج والدانمارك.. لقد عشقتَا المغربَ وطبيعتَه الخلاّبة، فدفعتا ثمنًا غاليا بحياتهما مقابل هذا العشق القاتل، وسيُكتَب على شاهدَيْ قبريْهما: [قُتِلتْ بِيد الغدر]، مع ذكْر المكان، وتبْيان التاريخ.. يا لها من مأساة كنّا في غنًى عنها، ولكنْ..
لقد اقتُرفتْ هذه الجريمةُ النّكراء، في وقت يهاجم فيه الحزبُ الحاكمُ السّلطةَ القضائية في المغرب، دفاعًا عن قاتِلٍ بغير حقّ، وأعني به المتهم (حامي الدّين) الذي يدافع عنه كلٌّ من (العثماني) و(الرّميد) فيحرّضون على القضاء، ويتحرّشون بالعدالة.. فإذا كان حزبٌ، ورئيس حكومة، ووزير دولة، يدافعون عن متّهم بالقتل مع سبق الإصرار والترصّد، فمن الممكن أن يزداد عددُ القتلة والمجرمين، ما داموا قد صارت لهم حكومةٌ، ووزراء، وحزب، يدافعون عنهم؛ وآخرون في الخفاء والعلن، ينادون بإلغاء عقوبة الإعدام لطمأنة القتلة؛ فطوبى للقتلة وسفّاكي الدّماء في هذا البلد!