بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
كثرت في السنوات الأخيرة مع انتشار ثقافة الإنترنت المفتوحة، وذيوع وسائل التواصل الاجتماعي العامة، والقدرة اللا محدودة على امتلاك صفحاتٍ خاصةٍ على الفيسبوك وتويتر وغيرهما من الوسائل المجانية أو الرخيصة واسعة الانتشار وسهلة الاستخدام، التي مكنت أصحابها بسهولةٍ ويسرٍ من الكتابة بحرية والتعبير بجرأة، ونشر ما يريدونه وما يفكرون به وقتما يشاؤون دون رقابةٍ أو متابعةٍ، الأمر الذي أصابهم بالسكرة والغرور، وجعلهم يفكرون أنهم يستطيعون الارتقاء إلى مصاف كبار الكتاب والباحثين، ومزاحمة المفكرين والفلاسفة، ومنافسة أصحاب الرأي والفكر والإبداع، والتفاخر بعدد الزوار والمعجبين، والاعتداد بكثرة المعلقين والمعقبين، والإحساس بالزهو لكثرة حالات إعادة نشر مساهماتهم وتبني أفكارهم وتعميم تغريداتهم.
كما أدى تكاثر القنوات الفضائية الرسمية والحزبية، وتلك التي يمتلكها كبار التجار ورجال الأعمال، الذين يفكرون في الربح والمكسب، ويبحثون عن المنفعة المادية ومضاعفة الأرصدة المالية، ممن لا يعيرون ثوابت الأمة اهتماماً، ولا تعنيهم مقدساتها وقيمها الدينية والوطنية والقومية شيئاً، فيوظفون في محطاتهم الإعلامية تجار المواقف وباعة الأفكار، ممن يميلون مع الرياح ويروجون ويصفقون لمن يدفع لهم أكثر، وغيرها من القنوات العامة الموظفة قصداً والموجهة عمداً، التي تستهدف بطواقمها الموجهة وضيوفها المرضى القطاعات الشعبية العامة من أبناء أمتنا العربية والإسلامية، فتغزو عقولهم بكل جرأة، وتزور الحقائق وتبدل الوقائع بكل وقاحة.
أضرت هذه المؤسسات المتعددة الانتماءات والمختلفة التوجهات والمشبوهة التمويل بنا وأساءت إلينا، وشوهت قيمنا وبدلت مفاهيمنا، وعابت علينا أخلاقنا ودعت إلى تخلي الأمة عن موروثاتها، وجاهرت بتأييدها للعدو ومناصرتها له، بل دعت إلى زيارته والتطبيع معه، وتمنت الخير والسلامة له، ودانت من يقاومه وشجبت يقاتله، وجلبت من رضي أن يكون بوقاً له صفير، وطبلاً أجوفاً له دوي، يمجدون العدو ويمسحون عاره، ويطهرون صفحته ويجملون صورته، بينما هو يبطش بالشعب الفلسطيني وينكل بهم، ويمعن في قتلهم ومصادرة أرضهم، ولم تتردد هذه الفئات المنحرفة في الدعوة إلى شطب آياتٍ قرآنية أو تحريف أحكامٍ ربانية، خدمةً لمصالح العدو وترويجاً لأفكارهم الضالة، ولو كانت معادية للأمة ومناصرة لأعدائها.
ما من شكٍ أبداً أن الذين يقومون بهذه الأعمال الفاسدة إنما هم مجرمون وظالمون، ومنحرفون وضالون، وهم فئة من الأمة مارقة ومنحرفةٌ وشاذة، ولا تعبر عن هوية الأمة بشيء، ولا تعكس شخصيتها الحضارية، ولا تعبر عن عقيدتها الدينية ولا عن ثوابتها الوطنية والقومية، وأن الضجيج الذي تحدثه تصريحاتها، والدوي الذي تسببه تغريداتها، ليس إلا صدى التهويل الإسرائيلي والترحيب الغربي المعادي لنا، فالعدو الإسرائيلي يبحث عن أصحاب هذه المواقف ويشيد بهم، ويكيل المديح لهم، ويعرب عن سعادته بهم وبمواقفهم، ويبدي رغبته في استضافتهم والحفاوة بهم، في الوقت الذي يعمم تصريحاتهم وينشرها، محاولاً إيهام الرأي العام أن هذا هو الموقف العام لشعوب الأمة العربية والإسلامية، التي باتت تعترف بإسرائيل، وتطالب بالتطبيع معها.
ولكننا نحن نشارك أيضاً في هذه الجرائم، ونساهم في تعميق آثارها وانتشار أضرارها، وذلك باهتمامنا بأصحابها، وبالرد عليهم أو إعادة نشر تغريداتهم أو ذكر أسمائهم، ولو كان ذلك بحسن نيةٍ، فهذا الأمر يزيد في غرورهم، ويضاعف حالة النشوة في صدورهم، ويصدقون أنفسهم بأنهم محل الاهتمام وقطب التفكير، بينما هم في الحقيقة حثالة المجتمع، وشرذمة الكتاب والصحافيين، ونكراتٌ لولا شذوذهم، ويتجاهلون أن العدو لا يحترمهم ولا يقدرهم، ولكنه يريد أن يستغلهم ويستفيد منهم، وأنه في لحظةٍ ما لا محالة سينقلب عليهم وسيطرحهم، إذ لا حاجة له في شرذمةٍ قليلةٍ خائنةٍ، لا تعكس إرادة الأمة ولا تعبر عنها، بل هي في مجتمعاتها معزولة ومرذولة لا تلق الاحترام، ولا يقبل المواطنون وجيرانهم ومعارفهم مصافحتهم والجلوس معهم، إذ يعتبرونهم شراً مطلقاً ومرضاً معدياً ونجساً كبيراً.
أنا لا أدعو إلى الاستخفاف بعملهم أو التقليل من أثرهم، ولا أحرض على التخاذل في مواجهتهم أو التقصير في الرد عليهم، بل أصر على محاربتهم، وأدعو إلى حصارهم، وأشجع على نبذهم وإعلان البراءة منهم، لكن لا ينبغي أبداً أن نساهم في رفعتهم وشهرتهم، بذكرنا أسماءهم ونشرنا لأقوالهم، بل يجب علينا أن نهمل هذه الشخصيات التي كانت نكرة، وأن نتجاوز أسماءها وإن اشتهرت، وألا نعيرها أي اهتمامٍ يذكر، وألا نشعرها أنها تخيفنا أو تزعجنا، أو أنها تقلقنا وتربكنا، فهم أقل شأناً من أن يغيروا قيمنا أو أن يؤثروا على مفاهيمنا، أو أن يبدلوا معتقداتنا، إذ أن الأمة تعرفهم أنهم مرتهنون وتابعون، وأنهم مارقون ومأجورون، وأنهم عفنٌ ووهنٌ، ومرضٌ وسقمٌ، وأنهم بغاثٌ وغثاءٌ.
فهؤلاء النكرات المجاهيل نفوسهم مريضة وقلوبهم خبيثة، لا يبالون إن كانت شهرتهم في فضيحة، ولا يزعجهم إن سبهم أحد أو شتمهم، فهم يبحثون عن رفعةٍ ملوثةٍ عند غيرنا، ويتطلعون إلى مكانةٍ رذيلةٍ عند عدونا، ويرون في تسليط الضوء عليهم شهرةً وخدمةً لهم، كي يعرف العدو قدرهم ويحفظ مقامهم ويقدر أفعالهم، ألا تعساً لهم وأضل أعمالهم، وسحقاً لهم وخاب ظنهم، ولعنةً عليهم وقطع دابرهم.
لا يعتقد أحدٌ أن هذه حرية تعبيرٍ وحرية رأيٍ، تكفلها القوانين والدساتير، وتحترمها النظم والأمم، فهذه المواقف المنبتة الغريبة، المنافية للقيم والعقائد، التي تهدم الموروث المقدس، وتعتدي على الحقوق المشروعة، وتتنازل عما لا تملك لمن لا يستحق، وتدعي تمثيل الأمة، وتقدم نفسها معبرةً عنها، لا يمكن أن تصنف أبداً على أنها حرية رأي وتعبير، ولهذا فنحن لا نقدرها ولا نقدسها، ولا ندعو إلى احترامها ولا إلى تقديرها، علماً أننا نقدس الرأي الآخر الوطني والقومي والديني الملتزم، لكننا لا نستطيع أن نقبل بهذه المواقف التي تخون الوطن ودماء الشهداء، وتفرط في حقوق الأمة والأجيال، وتنقلب على المفاهيم والمعتقدات، وتسلم للعدو بما اغتصب ونهب.