راقني كثيرا ليلة الانتقال إلى العام الجديد أن أكون شاهدا على لحظة احتفال من نوع خاص. مسرحها كان قرب المحطة الطرقية لأولاد زيان، ومكانها بالتحديد كان هو مخيم اللاجئين القادمين من جنوب الصحراء الذي اشتهر في المغرب كله باحتراقه المرة بعد الأخرى.
هدوء تلك الليلة الخاصة من السنة كسرته قرابة العاشرة والنصف ليلا أصوات غناء مرتفعة، وأصداء تصفيقات وعلامات رقص من بعيد.
قاطعت قراري الأول بعدم التحرك من المنزل ليلة رأس السنة. واستجبت لشيطان الفضول الصحافي في دواخلي، وارتديت منازل الخروج ونزلت لأستطلع الأمر رؤى العين لا سماع الأذن فقط، لأن من رأى ليس كمن سمعا مثلما علمتنا قاعدة الصحافة الأولى في المأثور العربي قبل اختراع صاحبة الجلالة بوقت طويل.
تحت الخيام البلاستيكية الزرقاء التي تقوم مقام السقف، في ذلك المخيم الموجود قبالة محطة أولاد زيان للنقل الطرقي، كان عشرات من أهلنا الأفارقة المسيحيين مجتمعين حول وجبة تبدو أدسم من تلك التي يتناولونها في الأيام الأخرى العادية، هم الذين أصبح كل المواطنين المغاربة يعرفون مايأكلون طالما أننا نلتقي بهم يوميا في ملتقيات الطرق وعند الشارات الحمراء وفي كل المواقع التي يمكن أن يمدوا فيها يدا طلبا للرحمة والإحسان وتلمسا لخير أكيد لن ينقرض من قلب الإنسان.
الوجبة متكونة من خليط متنافر من المواد الغذائية، لكنها تبدو شهية: أطباق تقليدية من السنغال ومن الكونغو ومن الكامرون ومن إفريقيا الوسطى، ومن بلدان أخرى لم أعرفها، وقربها قطع حلوى كثيرة، وقنينات مياه غازية أكثر وقنينات أخرى تقوم مقام الروح في ذلك المكان، وأغان كثيرة وشجن أكثر وألحان أحلام بالمرور يوما إلى الأفضل، بالعبور ذات زمن إلى ماهو أجمل من البقاء رهائن ذلك المخيم الحزين
الأغاني تنبع من القلب، وتذكرك بذلك المقطع الشهير من ملحمة "مدن الملح" حين يتحدث كبير القوم عبد الرحمان منيف عن سكان الصحراء الذين حين يفرحون يغنون، وحين يحزنون يغنون، والفرق بين غناء الفرح وبين غناء الحزن هو ذلك الشجن الغريب القابع في تلافيف الفؤاد..
اكتشفت تلك الليلة، أو أعدت الاكتشاف أن المال حقا لايصنع السعادة مثلما يقول المثل المبتذل المصنوع لدفع الفقراء نحو صبر أكبر. السعادة شيء داخلي إما أن تتوفر عليه، وإما أن تكون أكثر قوم الله حزنا وأن تحرم منه رغم ماقد يتوفر لك من إمكانيات ربما لا يمتلك الآخرون جزءا ولو صغيرا منها.
تلك السعادة رأيتها بأم عيني ليلة "السان سيلفيستر" مع أولئك الهاربين، الفقراء، المهاجرين، اللاجئين، الذاهبين من الموت إلى الحياة، الرافضين الاستسلام للقدر الذي قيل لهم لحظة الولادة إنه قدرهم، الطامحين لما هو أفضل، المقررين المغامرة حد الموت، القادرين على قطع الصحراء على أرجلهم والبقاء هنا في شارات الضوء الحمراء يتسولون ريثما يكتمل المبلغ الكافي الذي تريده مافيا الحريك، الممتطين الأمواج العاتية على متن قوارب مضحكة للغاية ومحزنة للغاية، القادرين على السباحة عشرات الكيلومترات قصد الوصول إلى شواطئ ذلك الفردوس الأوربي اللعين والملعون، وإن تركوا أجزاء من الجسد ومن الروح في المياه، وإن ماتوا، وإن قتلوا، وإن فعلت بهم الدنيا الأفاعيل هي التي قست عليهم أول الأمر حين الولادة، وقست عليهم ثاني الأمر حين العيش، وقست عليهم ثالث وآخر الأمر حين الموت...
لم يكن احتفالا بدخول عام جديد. كان احتفالا ببقاء النفس قادرة على النزول والصعود داخل الأجساد القوية والحزينة. كانت طريقة من بين طرق أخرى كثيرة لإخراج اللسان لأقدار الحياة، للقول لها "نعم، نحن مهاجرون غير شرعيين، نعم نحن متسولون نعيش داخل خيام بلاستيكية تحترق المرة بعد الأخرى، نعم نحن ضحايا عنصرية، والناس لا تنادينا في هذا المكان ولا في المكان الذي ننوي الذهاب إليه بأسمائنا بل يقولون لنا "عزي" و"مونامي" و"كوليبالي" و"مامادو"، نعم نحن كل هذا ويزيد، لكننا في البدء وفي المنتصف وفي المتم وفي ختام الختام طلاب رزق وطلاب عيش وطلاب حياة، يحق لنا في ليلة واحدة لاتشبه بقية الليالي أن ننسى الحزن، أن ننسى التفكير في طعام الغد، وأن ننسى هوس جمع المال لأجل مد مافيا الحريك به وأن نحتفل، أن نغني، أن نشرب أن نثمل وأن نبكي ختاما وأن ننام".
ما الذي سيحمله الغد لنا؟
لا نعلم ولا نريد أن نعلم، نريد فقط أن نصرخ ملء الحياة هذه الليلة "بوناني" بكل اللغات، وأن نتذكر لحظات الرقص الأولى يوم كنا صغارا في حضن الأمهات، نتلمس أعينهن ونرى الحنان قادما إلينا من كل الاتجاهات، ونطمئن ونمنح هاته العاهرة المسماة الدنيا كل الأمان..
لم نكن نعرف أن الحياة ستكون قاسية "ماما أفريكا". لم نكن نعرف أنها ستكون بهاته الخسة وبهاته النذالة وبكل هذا الحرمان
أعترف بها دون أى إشكال: أمضيت الليلة أغالب دموعي، وعرفت معنى لحظة الاحتفال الحقيقي، وإن كانت مؤقتة وحزينة وموغلة في الألم، بالقدرة يوما إضافيا آخر على الحياة.
سنة سعيدة أتمناها من قلب القلب لأولئك المظلومين بفعل فاعل، لأولئلك الحالمين بالأفضل وإن قال لهم الأسوء دوما إن له القدرة الكئيبة على البقاء…
سنة سعيدة لكم أيها الأصدقاء وإن كانت كل المؤشرات تقول العكس، لكن منذ متى كان الفقير الإفريقي يأبه بالمؤشرات؟؟؟
المختار لغزيوي