بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
طال الانتظار ومضت الأعوام تترى، وانطوى الزمان وتسارعت الأيام عجلى، وتتالت الليالي بالمصائب والأنواء حبلى، والفلسطينيون على حالهم البئيس وواقعهم المر الأليم، في مكانهم يقبعون، تحت الاحتلال يقاسون، ومن عدوهم ومن أنفسهم يتألمون، وفي سجونهم الكئيبة ومعتقلاته البعيدة يرزحون، وتحت الحصار الظالم يعيشون، وفي ظل العقوبات الجائرة يعانون، وفي تخبطهم الأهوج يعمهون، وفي انقسامهم البغيض يمضون، وفي اختلافاتهم السخيفة يزيدون، وعلى مناكفاتهم الصبيانية يصرون، ولبعضهم يكيدون، وبحقهم يفرطون، وفي واجبهم يقصرون، وصورتهم يشوهون، وتاريخهم يلوثون، ولحلفائهم يطردون، وعن حاضنتهم يبتعدون، وعلى تحالفاتهم ينقلبون، وكأنه ليس في الكون أشقى منهم ولا أشد بؤساً من حالهم، ولا أنكى جرحاً مثلهم.
يستقبل الفلسطينيون أعوامهم الجديدة ويطوون صفحات أعوامهم الفائتة، بعيونٍ باكيةٍ وقلوبٍ مكلومةٍ موجوعة، ونفوسٍ كسيرةٍ حسيرةٍ، وكلهم أملٌ ورجاءٌ دائمٌ في الله عز وجل بأن يكون العام الجديد عام خيرٍ وبركةٍ عليهم، تتحقق فيه أحلامهم وترى النور أمانيهم، وتتغير فيه أحوالهم وتتحسن فيه أوضاعهم، ويسود السلام بينهم وتعمر المحبة قلوبهم، وفيه يتخلصون من الاحتلال، وينتهون من القطيعة والانقسام، وينقلبون على الضغينة والفساد، وينتصرون على المتآمرين عليهم والمعادين لهم، وينفضون غبار الوهن عنهم، وينعتقون من وهم المفاوضات وسراب محادثات الذل والسلام التي ضيعتهم، ويعودون معاً جبهةً واحدةً وصفاً موحداً، يواجهون عدوهم، ويقاومون به خصومهم، ويتحدون بوحدتهم همومهم وأحزانهم.
تعالوا بنا أيها الفلسطينيون جميعاً، فصائلَ وأحزاباً، وقوى وتنظيمات، وأفراداً وقياداتٍ، في الوطن وفي الشتات، نهنئ بعضنا بصدق، ونبارك لأنفسنا بمسؤولية، ونتبادل التحيات بصفاءٍ، ونستقبل عامنا الجديد بكل عزمٍ وإصرارٍ، ويقين وثباتٍ وعنادٍ، وبنيةٍ جادةٍ وإرادةٍ صادقةٍ في التخلص من أوضاعنا المحزنة، والخروج من واقعنا التعيس، ونكون أولاً صادقين مع أنفسنا وشعبنا، وأمناء على قضيتنا ومقدساتنا، فننقلب على الانقسام، ونلقي عن كواهلنا أوزار القطيعة والاختلاف، ونتخلص من أدران الحقد وبذور الكراهية، ولا نقف عند المنافع الشخصية والمصالح الحزبية، بل تدفعنا مصالح شعبنا، وتقودنا أمانة قضيتنا، وندرك أننا لبعضنا سند ولأنفسنا درءُ وعضدٌ، لنصل معاً إلى بر الوحدة وشاطئ الوئام، ونحقق للشعب أمنيته، ونضمن للوطن وحدته، ونصون للقضية طهرها ونحفظ عليها نقاءها.
تعالوا بنا أيها الفلسطينيون لنتفق على وجوب مواجهة الاحتلال بالقوة المسلحة، وبكل أشكال المقاومة، الشعبية والسلمية، والقانونية والدبلوماسية، والشعبية والأممية، وألا نستخف بأي وسيلة وألا نعيب على أي مساهمٍ، وأن نقاطعه اقتصادياً وثقافياً، وفنياً وعلمياً، وأن نحشره في كل المحافل وأن نفضحه على كل المنابر، وأن ندفع قادة الدول وأحرار العالم إدانته وشجب سياسته، والضغط عليه ومحاصرته، حتى يرضخ للقانون ويذعن للحق، ويتوقف عن الظلم والبغي، وعن القتل والعدوان.
تعالوا بنا أيها الفلسطينيون لنجعل هذا العام إلى جانب الوحدة والاتفاق، والمصالحة والوئام، ليكون عام الأسرى بحقٍ، وعام الحرية بجدٍ وعمل، نتعاهد على حريتهم ونعمل على الإفراج عنهم، أو التخفيف من معاناتهم ورفع الضيم عنهم، والتصدي لسياسات الاحتلال ضدهم، فإنهم يستحقون منا أن نكون أوفياء لهم وصادقين معهم، وأن نعمل من أجلهم، وأن نخوض المعارك إكراماً لهم وتضامناً معهم، كما أن أهلهم وأسرهم، وأطفالهم ووالديهم، يستحقون منا أن نقف إلى جانب، وأن نقدر تضحياتهم، وأن نساهم بأقصى ما نستطيع للتضامن معهم والإحساس بهم، وتقدير أحوالهم والوقوف إلى جانبهم.
تعالوا بنا أيها الفلسطينيون في عامنا الجديد نضمد جراح أبنائنا الجرحى والمصابين، ونكون لهم بلسماً يداويهم وعلاجاً يشفيهم، ولا ننسى أن العام الفائت وحده قد خلف في قطاع غزة آلاف الجرحى، جراح الكثير منهم خطرة، وبعضها في الجسد غائرة، وغيرها أدت إلى بتر الأطراف وأخرى كانت سبباً في الشلل الجزئي أو الكلي، حتى غدت شوارع غزة لا تخلو أبداً من جريحٍ يمشي مستعيناً بعكازٍ، أو يتنقل على عربةٍ متحركة، وغيرهم كثيرٌ ما زال يقبع على أسرة المستشفيات الفقيرة المعدمة، أو في مستشفيات الخارج، ينتظرون الشفاء ويرجون من الله عز وجل السلامة وأن تبرأ جراحهم، إذ يأملون في العودة إلى سوح المقاومة وميادين القتال، إذ يسبقهم إلى الشفاء أملُ العودة إلى مسيرات العودة وكسر الحصار.
تعالوا أيها الفلسطينيون في عامنا الجديد نعيد بناء جبهتنا الفلسطينية الداخلية على أسسٍ ثابتة ومفاهيم صادقة، تجمعنا ولا تفرقنا، وتوحدنا ولا تمزقنا، وتعيد الألق إلى قضيتنا والبريق إلى مقاومتنا، لنعود كما كنا في صدارة الاهتمام وفي مقدمة الواجبات، وتعالوا نعيد بناء جبهتنا العربية والإسلامية، ونعيد ثقة أمتنا بنا وإيمانها بقضيتنا، فقد والله خذلناهم بتصرفاتنا، ودفعناهم للانفضاض من حولنا، فقد يأسوا من سلوكنا وملوا من اختلافاتنا، فهيا بنا نعيدهم إلينا كما كانوا سنداً وعوناً، وعمقاً وحضناً، وجداراً وحصناً، فإننا في حاجةٍ إليهم ونتطلع إلى مساندتهم، ولعلنا ضعفاء بدونهم وعاجزون من غيرهم، ولكننا بالتأكيد أقوياء بهم وأعزاء معهم.
إننا بهذا الفعل النبيل الذي تأخر، وبهذه الخطوات الواجبة التي لا تتحقق، نستطيع أن نهنئ شعبنا بما يحب ويتمنى، وأن نقول له بصدقٍ وإيجابية كل عامٍ وأنت بخير، ويمكننا بعد ذلك إن صدقنا العزم وأتبعناه بالعمل أن نقول بأن العام الجديد يختلف عن الماضي ولا يشبه الأعوام التي سبقت.
أما إذا أصررنا على المواقف القديمة، وتشبتنا بالشروط المستحيلة، ومضى كل طرفٍ يمعن في التشدد ويبالغ في التطرف، ويعمق جذوره في أرض الانقسام الموحلة، وتربة الاختلاف القاحلة، فإن عامنا الجديد سيكون أكثر بؤساً وأشد شقاءً، وأدعى لليأس والقنوط الأكثر، فقد تعب شعبنا في الوطن والشتات، وملَّ الاختلاف والانقسام، وسقط نتيجةً لذلك في حمأة الهجرة ودوامة الضياع، وأصبح أقرب للقبول بما يعرض عليه، وأكثر ترحيباً بما كان يرفض ويعارض، لكننا بهذا الشعب الأبي العنيد، الصابر المرابط، المقاتل المكافح، لن نفقد الأمل، ولن نضل الطريق، ولن نمل الصبر ولن نيأس من الابتلاء، وسنبقى نقول لأنفسنا بإيمانٍ ويقينٍ، ونتبادل التهاني والأمنيات بصدقٍ أكيد، كل عامٍ وأنتم يا شعبنا العظيم بخير.