عبد الرحمان شحشي
"وتستمر الحياة رغم الظلاميين"
يعد تحليل المضمون أداة ضرورية تعتمد أكثر على قدرات الباحث الشخصية في تحليل النصوص بأدوات علمية، وفي هذه الحالة سيصبح النص الأصلي مقسما حسب موضوع الدراسة إلى مجموعة من المفاهيم والأفكار الأساسية.
وقد استخدم لأول مرة في مجال الصِّحافة لدراسة مضمون الصحف الأمريكية سنة 1926، وتبعهم بعد ذلك الباحثون الاجتماعيون. وهو منهج يركز على عملية الاتصال المكتوبة؛ حيث يتم التعرف على من القائل؟ وماذا يقول؟ ولمن؟ وكيف؟ ولأي هدف؟.
ويستعمل عندما تكون البيانات مقصورة على الدليل الوثائقي، وكذلك عندما يصعب مقابلة المبحوثين والاتصال بهم، حيث تتم الدراسة آنذاك عن بعد وعن طريق التعبيرات الاتصالية الصادرة عنهم: ندوات، خطابات، صحف، مقالات، رسائل وغيرها.
وكذلك عندما يكون حجم المواد المدروسة أكبر من قدرة الباحث على القيام ببحثها، فيلجأ إلى أسلوب العينة في دراسته والتي تختلف حسب وحدة تحليل المضمون من: "كلمة" و"موضوع" و"شخصية" و"مساحة" و"زمن" و"مفردة" التي هي أصغر وحدة.
وعلى الرغم من نجاعة "تحليل المضمون" فإنه يبقى مع ذلك قاصرا على الإلمام بدراسة النص دراسة جامعة مانعة، حيث وجهت إليه مجموعة من الانتقادات؛ منها أنه أداة انتقائية لا شمولية للتحليل. وفي هذا الاتجاه، طرح "التحليل النسبي للمضمون - (A.P.C) - من لدن الباحثين : Ghiglione Matalan et Bacri..
وعليه، فإن "تحليل المضمون" وإن كان ضروريا فإنه ليس كافيا، حيث يعتمد كذلك على "تحليل الخطاب" كأداة لتفكيك النصوص والوقوف على خطاباتها الكامنة؛ وهو أداة تختلف عن "تحليل المضمون" من حيث عدم اقتصاره على الوقوف عند منطوق النص؛ بل ينفذ إلى "ما وراء الخطاب"، أي "استقراء" النص؛ وهو ما أصبح يشار إليه باتجاه "ما وراء الخطاب" ويتزعمه « Bakhtine Mikhail ».
وإذا كان "الخطاب السياسي" بنية لها قواعدها وعوالمها الخاصة، فهو يتميز بداهة عن باقي الخطابات الدينية والفلسفية والفنية وغيرها. والخطاب السياسي هو شكل من أشكال خطابات التأثير على سلوك "الآخر"؛ بهدف حمله على فعل شيء أو الامتناع عنه.
يحكم النظامَ المرجعي للخطاب السياسي مستويان: الأول وتشكله المنطلقات الأساسية المهيكلة للخطاب وهو الإطار الفكري الشامل لمبادئ عامة تحدد المواقف والآراء وأساليب العمل بالنسبة إلى الممارس السياسي، بل ويضفي من خلالها صبغة الشرعية على حركته السياسة. أما الثاني فهو مرتبط بالإحالات المستعملة من لدن السياسي قصد تدعيم فكرة أو تبرير موقف أو تأكيد إيجابيات أسلوب عمل معين أو إبراز سلبيات الخصوم.
كما أن الخطاب السياسي الناجع والفعال يحترم "الثقافة الجماهيرية" المبنية على تكرار المضامين والخطابات الإيديولوجية ومحو التناقضات؛ لكن مع تغيير الأشكال السطحية، عبر نزع الصفة السياسية عما يبدو "سياسيا"، وإضفائها على ما ليس كذلك؛ وهو ما يعتبر تضليلا سياسيا مساعدا على نشر الوعي الخاطئ وإيهام الجماهير، عبر سحر اللغة التي تعتبر مؤسسة جماعية ذات قواعد تفرض نفسها على الأفراد، وتتناقل بطريقة جبرية من جيل إلى آخر لأنها حاملة لتقاليد السنين.
ويسهر على عملية الإنتاج هذه "المختصون" في "الإنتاج الرمزي" الذي يدور حول احتكار "العنف الرمزي"، ويسعى إلى سن أدوات اعتباطية لمعرفة الواقع الاجتماعي والتعبير عنه.
والخطاب السياسي "الرسمي" يتميز في مضمونه وإلقائه عن باقي الخطابات، كما يتوقف على المقام الاجتماعي للمتكلم - (عاهل / ملك/ فقيه/ أستاذ جامعي/ مناضل/ فنان / عاطل وغيرهم ) - ذلك المقام الذي يتحكم في مدى نصيبه من لغة "المؤسسة" واستخدام الكلام الرسمي المشروع، كما أن لهذا الخطاب الرسمي طقوسه الخاصة به، وهي مجموع القواعد التي تتحكم في شكل المظهر العمومي للسلطة ومراسيم الاحتفالات و"البروتوكولات"؛ وهي من بين الأدوات التي تعطي للخطاب الرسمي المشروعية والقوة وتؤمن له النفوذ، وفق شروط اجتماعية لإنتاج وإعادة إنتاج "ثقافة" سياسية سائدة ومهيمنة بلسان مشروع والعمل على الاعتراف به داخل كل الطبقات الاجتماعية.
وهذا البعد "البراغماتي" في الاتصال السياسي عبر قناة "الخطاب السياسي الرسمي" يهدف إلى الإقناع مع التضليل، والإخبار مع القيادة والتفاوض مع السيطرة؛ المهم في هذا البعد ليس مضمون الرسالة ولا بنية النظام التواصلي وإنما شكل العلاقة الاجتماعية التي تسعى إلى الهيمنة وتبحث عن الفعالية.
وعليه، فإن الخطاب السياسي الرسمي يعد أبرز أشكال "الخطابات السلطوية"، والتي هي أساسا "كل خطاب يولد الخطأ لدى من يتلقاه". وبالتالي، فإن السؤال المحوري هو ليس "من يتكلم؟" وإنما "كيف يتكلم؟" أي تحليل الآليات التي تختفي وراءها "السلطة" وتحاول بواسطتها الاستحواذ على "النص" باعتباره الخطاب الأكثر رواجا والأقل إلزامية، وذلك قصد استغلاله وتوجيهه، أو قصد التخفيف من حدته.
وبالتالي، فإن "الخطاب السياسي" يستلزم بنية هدمية لفهم معناه، ومن ثم وحدها قمة الهرم تحصل على المعنى الحقيقي والكامل، ولا تحصل القاعدة سوى على انعكاس باهت له؛ وهكذا لا تبقى أمام الجماهير سوى أن تقبل بالعلامة المحدودة التي تصلها.
فهل علينا الخضوع للخطاب والخطابة التضليلية؟ أم علينا النضال لكشف أساليبها وآليات اشتغالها ؟