|
|
|
|
|
أضيف في 27 دجنبر 2011 الساعة 07 : 20
يوسف بلال ترجمة: لحسن العسبي ومحمد خيرات
في كتاب»»الشيخ والخليفة, السوسيولوجيا الدينية للإسلام السياسي بالمغرب»«يتساءل الأستاذ الباحث يوسف بلال عن مكانة الديني في المجتمع المغربي, ويحاول إعطاء عناصر جواب لأسئلة سياسية وثقافية محورية تكتسي أهمية بالغة في السياق السياسي والثقافي والفكري الذي يعيشه العالم العربي بشكل عام, والمغرب بشكل خاص، وذلك من خلال دراسة ميدانية عميقة ومثيرة لكتابات وتصورات أهم حركات الإسلام السياسي في المغرب... ويحاول الكاتب عن طريق قراءة سوسيولوجية دينية متأنية للأشكال والأنماط العملية للتنظيم والتعبئة, بأن الإسلام لا يتعارض مع الديمقراطية وأن الإسلام السياسي كما تطور في المغرب، سواء كان إسلام الملكية أو إسلام بعض الحركات التي يطلق عليها نعث» الإسلامية» نابع من المجتمع ونتاج لتطور بنياته وتفاعلها مع محيطها... ولتقريب القارئ من مضمون مقاربة الأستاذ يوسف بلال, وتعميما للفائدة وإثارة النقاش اخترنا مقاطع مهمة من الفصل الثالث من الكتاب (الذي يقع في 5 فصول) والمتعلق بفكر وتصور الشيخ عبد السلام ياسين, زعيم ومؤسس »جماعة العدل والإحسان« ومشروعه التربوي والدعوي والسياسي للمجتمع والدولة...
في كتابه الأول، «الإسلام بين الدعوة والدولة» ، الذي صدر فترة وجيزة بعد وفاة الشيخ عباس، يشرح ياسين بوضوح مشروعه: خلق جماعة تختص في تربية الشعب بتعاون كامل مع الأمير. ويكفي الاهتداء بكبار الفاعلين في تاريخ العالم الاسلامي وتاريخ المغرب. بعدما تلقى عبد الله بن ياسين (المتوفى سنة 451 هـ/ 1059 م، مؤسس زاوية المرابطين) تربية نخبوية طهرت روحه وقوَّت إرادته، خرج للجهاد، جهاد يتمثل في القيام بالدعوة. لكنه لم يطعن في سلطة الأمراء، وظل دائماً قائداً مربياً. وترك الإمارة في يد من كانوا يضطلعون بها إلى أن آلت إلى مريده وتلميذه يوسف بن تاشفين. نموذج المرابطين، إذا كان يقترح امتداداً مع مؤسس الحركة، فهو أيضاً تجسيد لقانون في التاريخ الإسلامي: »رجل الدعوة يكسب القلوب عبر التربية الروحية، وعندما يلتقي مثل هذا الرجل مع رجال السلطان، فإن الإسلام يدخل في حقبة جديدة من تاريخه...« (الإسلام بين الدعوة والدولة ص 26). فياسين يرفض صراحة أية محاولة لأخذ السلطة بالقوة، ويعتبر أن اللجوء إلى الثورة والانقلاب العسكري في العالم الاسلامي هو نتيجة لتأثير النموذج الاشتراكي. وبالتالي لا يمكنها أن تكون وسائل لصحوة الإسلام، بل يكتب ياسين ما يلي: «لا أعرف إن كان البنا وقطب، هذان الرجلان العظيمان قد قرءا الفصول حول الفُرقة في كتب السنة، وإن كانا قد فكَّرا في أمر النبي الصارم بالإنصات للأمير وطاعته حتى وإن لم يكن يؤدي صلاته. وأمرنا أيضاً بالتآخي وإدانة العنف« (ص 316). فالإسلام يمنح للحاكمين التوبة، وإمكانية العودة إلى الله. فالإسلام دعوة موجهة إلى الجميع: الشباب، العلماء، القادة، الحاكمون، رجال السياسة من أجل أن يعودوا إلى الله. هؤلاء ملزمون بالمساهمة في صحوة الإسلام بالتفرغ لبناء جماعة تختلف عن المجتمع الحديث بتضامن عضوي. فهي مكان لأخوة ستسمح للإنسان بتجاوز أنانيته، لأن المدن الكبرى في الشرق والغرب ليست اليوم سوى غابات تنتشر فيها الوحوش. بعض الماسكين بالحضارة يعتبرون أن الثقافة هي أداة في يد الإنسان للعودة إلى إنسانيته، إلى الهدوء والتآزر. لكن ثقافة المتحضرين هذه لا تعبر إلا عن كل ما هو عنف وحقد وخيانات في الواقع اليومي. فالجماعة العضوية هي النقيض تماما للمجتمع. فالجماعة ستكون بالضبط هي مكان التعاون والتآزر والأخوة والتضحية، وستكون خاضعة لشرع الله، بينما المجتمع لا يترك المكان سوى للفردانية والغريزة. فإذا كانت الجماعة تقاد بشكل جيد، فهي قادرة على تغيير أنانية الإنسان. فهي توفر للإنسان وسيلة الصحوة بفضل انتمائها الجديد والتربية التي يتلقاها. وهذه التربية لا يمكن توفيرها على نطاق واسع، إلا إذا كانت القيادة التربوية التي تتوفر على رغبة سياسية تنفيذية على رأس الأمة:»وهذا ما يقوله (جمال الدين الأفغاني عندما كتب بأن مستبداً عادلا وحده يلائم الشرق، أو ما يعني باللغة العصرية الدكتاتورية البيداغوجية« «ص 46. لابد من رجل ترك حياة الدنيا وراءه وينشغل بالله. ولا يجب أن يهتم بمناصب السلطة وإلا سيحكم على الناس بالبقاء قاصرين... في كتابه الأول، اختار ياسين التعاون مع الحسن الثاني. وبإدانته للثوريين وانقلاب العسكريين في هذا الكتاب ـ الذي أنهاه في نهاية سنة 1971، أي بضعة أشهر بعد المحاولة الانقلابية الأولى، كان يستهدف أهم تهديدين كانا يهددان العرش. طرح نفسه كحليف للملك، ويقترح عليه تقسيماً للعمل ـ شبيه بالتقسيم الذي كان قائماً بين محمد الخامس وابنه ـ سيكون الحل لجميع مشاكله ومشاكل البلاد (بل وحتى مشاكل البشرية): القيادة الروحية وتربية الشعب لي، والسلطة الدنيوية لك. لكنه حليف خاص نوعاً ماً، يرغب في أن يصبح مدير ضميره، لأنه، كيف تشتغل هذه السلطة المزدوجة، من الضروري أن يقبل الحسن الثاني التوبة و» »إعادة التربية« «من طرف القايد والخضوع لسلطته الروحية. وحده هذا التوزيع للأدوار في القمة قادر على بلوغ تربية الشعب وتغيير طبيعة الإنسان. والسلطة لا تكون شرعية إلا إذا كان الماسك بها محبوباً من طرف من رباهم. وأفضل حكومة هو تناسل الزاوية الصوفية على نطاق واسع. ومرة أخرى يطور ياسين تصورا غرامشيا ودمجيا للسلطة في كتابه الثاني «الإسلام غدا» ، الذي نشره سنة 1973. لكن الرسالة التي بعثها إلى الحسن الثاني سنة 1974 - والتي حاول من خلالها «مساعدته» والتي يظهر له من خلالها كيف أن الإسلام هو «الحل» كانت هي الترجمة العملية لهذا التصور للعالم.
بناء الطهرانية وانقلاب الهيمنة الرمزية
بإرسال مثل هذه الرسالة «الإسلام أو الطوفان» (وهي رسالة خطية في الأصل واشترك في توقيعها اثنان من رفاقه وهما العلوي سليماني وأحمد ملاخ)، إلى الحسن الثاني، يقيس ياسين جيدا عواقب عمل يبدو ظاهريا بدون أهمية، ومن خلال مساره ودراسته للتاريخ الديني والسياسي للمغرب، وتجربته الصوفية، يعرف ياسين أنه لبلوغ الطهرانية والطموح لبلوغ قمة الزاوية، هو الذي أبعد عنها لفائدة «مغتصب». عليه أن ينجح في تجاوز محنة كبرى. كان ينقصه هذا الفعل الكبير الذي سيسمح له بأن يجعل من سيرته الذاتية، سيرة قداسة، ويعطي مصداقية لزعمه الطهرانية. ودون العودة إلى القرون الماضية، أخذ ياسين كمثال محمد الخامس،الذي «ضحى» من أجل شعبه، وأصبح «الملك المرابط «الذي استطاع تجاوز «المحنة الرهيبة» التي فرضتها عليه فرنسا والتي نسجت من خلالها العديد من الحكايات حول معجزاته (طائرته تطير بدون الوقود الذي أفرغه الفرنسيون من خزانها...) وبالتالي فعمل ياسين هو رهان على المستقبل, يمكن أن يحصل بفضله على مكاسب رمزية كبيرة عندما تتأسس جماعته - فهو عمل ينطوي على مخاطر محدودة في النهاية، لأن ياسين لا يمثل إلا نفسه ولا يشكل خطرا يتعين على النظام أخذه على محمل الجد. لا يعرف عنه أي نشاط فعلي وليس مسنودا لا من حزب سياسي أو منظمة سرية. فبعد أن تمكن من تحييد جيش التحرير، وسحق اليسار البلانكي، وتمكن من تجاوز انقلابين، لم يكن الحسن الثاني يرى في ياسين سوى فقيه عالم ينحدر من الزاوية البودشيشية ومهندس كوميديا ضخمة. وفي نفس الوقت الحسن الثاني ملك كان يخيف المغاربة، فهو يجسد الهيبة، ورهبة الأب الشرعية والمقبولة. فالمغاربة الأكثر قوة في البلد كانوا ينحنون أمامه ويقبلون يده. كانت صورته معلقة على جدران بيوت كل الأعيان في انتظار منصب وزير أو مدير. الحسن الثاني كان يقصف بنظرته المغربي الذي يدخل أبسط متجر أو إدارة. وبتفحص صورته دون التجرؤ على إمعان النظر فيها، كان لدى المغاربة دائما شيء ما ُيؤاخذون عليه. يسمونه «المعلم» أو «سيدنا» ، ولكن لا يذكر اسمه أبدا في الهاتف أو في نقاش. فنظام الحسن الثاني نجح في أن يجعل من الخوف حكومته. خوف غذته الحقيقة القمعية وآلاف الاختفاءات المأساوية، وأيضا مخيال المغاربة. في هذا السياق، تأنيب الحسن الثاني كما فعل ياسين يعني رسملة هذا الخوف وتحويله الى مكتسب، لأن تحديه علانية والبقاء حيا هو بمثابة معجزة قديس خاصة عندما يكتب: «إننا نعيش في المغرب تحت مُلك الرعب البوليسي الذي يترجم خوف الملك [...] يمكن أن أقول لك أمام الله بأنني لا أهابك وأنني لا انتظر سوى الشهادة لله,ولكنني لن أرضى بأن يكون خصمي من السلالة النبوية» ص6. كما أن نصا معروفا لدى الأتباع ونقله أول وأوفى رفاق ياسين يقول: «بعد أن توصل بالرسالة, قام الحسن الثاني بسجن سي ياسين وأعطى الأمر بقتله. وعشية التنفيذ، كان الحسن الثاني كعادته يقضي في قصر واحدة من تلك الليالي البادخة عندما رأى أحد المجاديب ،وكان من رفاق محمد الخامس في مدغشقر، رأى الحسن الثاني شاردا ،ومن غرفة مجاورة، حدث الحسن الثاني قائلا: «خلي عليك سي عبد السلام، راه ولي من أولياء الله»، وعلى الفور أعطى الحسن الثاني الأمر المضاد بعدم قتله. العلوي سليماني، المدرس بمراكش، الذي وقع رسالة 1974، يذكر هذه المعجزة ويدفع بانتمائه الى العائلة الملكية. هذه المعلومة الأخيرة تضفي مصداقية على هذه الحكاية لأن من يحكيها هو ابن «عمومة» العائلة العلوية. فالمجدوب هو «محبوب من الله» له صفات إنسان وصفات خارق، يتواجد في الزوايا، وهو على اتصال دائم بالعالم الآخر. لا يدخل الغرفة التي يقيم بها الحسن الثاني وهو يتعاطى المحظور, كما لو أن الطاهر لا يحب أن يتصل مع غير الطاهر . هذا المجدوب معروف ايضا بأنه كان مع محمد الخامس في محنة المنفى. وتواجده، كرمز للحياة ورمز ايجابي عن ارادة الله، حمى العائلة الملكية (وكان ضمنها الأمير الحسن) ومحمد الخامس من الموت والاختفاء. والحسن الثاني لا يمكن الا أن يكون منتبها لما يقول له، لأنه حمى حياته وحياة والده، ونقل الإرادة الإلهية بالحكم والقيام باختيارات اعمال يجب ان تخضع لإرادة خارقة) وعدم اتباع نصائحه سيعني التعرض لغضب الله الذي عاقب الملك بمحاولتي انقلاب 1971 و 1972 . والمجدوب يقترح موازاة بين الطهرانية الايجابية لياسين وطهرانية محمد الخامس في تعارض مع الطاقة الشريرة والسلبية للحسن الثاني, المعروف في الزاوية بممارسة السحر. ومثل محمد الخامس، خرج ياسين سالما من محنة رهيبة. وبهذا الموت الطقوسي يعود العالم الى الإنسانية الحية، ككائن استثنائي ينحدر من الإلهي. كائن خارج المألوف، بعبارة واحدة قديس او ولي صالح». رغبة ياسين في بلوغ الطهرانية يتجلى ايضا في كونه في الرسالة التي بعثها سنة 1974 يتحدث قبل كل شيء عن نفسه، ويقدم نفسه كأمازيغي من سلالة شريفة ،يخاطب «حفيد النبي» يعلن ياسين علانية وحقيقة وضعه كشريف - الذي اكتشفه عندما دخل الزاوية حتى «يكون الناس قادرين على الحكم بانه مؤهل لإصدار الوصايا التي يعرضها في الرسالة» ، ويسترجع مساره ويركز على اللقاء مع الشيخ عباس من الزاوية البودشيشية ويقول للحسن الثاني. (...) تستحق هذه النصيحة، لأنك ملك هذه البلاد وعليك ان تتمثلها كإشارة رحمة اكثر منها منافسة بين عائلتينا، الادارسة والعلويين، منافسة لم تركز سوى على الجهل والمنافسة على السلطة. موقف ياسين غامض جدا، فهو يعطي النصيحة للحسن الثاني بتذكير الجميع انه ُمطالب تاريخي بالعرش الذي يمكن أن يجد فيه «الامازيغ» و«العرب»المغاربة أنفسهم. وفي نفس الوقت يعطي ياسين لقربه من الحسن الثاني مصداقية ويضفي الشرعية على انتقاده، وباختياره مخاطبته بنبرة حميمية يخاطبه» ياحبيبي» فهو يستعمل نفس تقنيات الخطاب التي يستعملها الملك في خطبه الموجهة الى الشعب. ويجعل منها ايضا قضية عائلية. ولكن اذا كان الحسن الثاني يؤنب شعبه العزيز الذي خذله, فإن ياسين يقلب الهيمنة الرمزية ويصبح الاب أو الأخ الأكبر الذي يعاتب الشاب اللامسؤول: انت لا تشرف العائلة ولست أهلا لجدنا، النبي. وكما هو الشأن داخل العائلة، فإن ياسين يكن العطف للحسن الثاني ويدافع عنه. «أعرف أن إيمان الملك خالص وأن سبحته ليست كذبا كما يعتقد ذلك اغلب الناس, اعرف انه يخاف الله في بعض الأحيان. وانه يبكي. ولكن اعتقد بأن دموعه لاتعفينا من الحديث عن جهله بالاسلام وبالشروط الضرورية لبلوغه سن الرشد. من الضروري أن يعبر عن توبته في واضحة النهار وبشكل صريح» ص 8 ياسين لا ينفي عنه مكانته كملك او نسبه الشريف، في العديد من المقاطع في رسالته، يعترف له بكل هذه الصلاحيات ليقول له: انت معفي من الأخطاء التي ارتكبتها بشرط ان تتبع نصائحي التي ستشفع لك وستمكنك من ان تكون في مستوى مهمتك ومكانتك، وياسين يحاجج الحسن الثاني بكلامه: بما انك تقول انك تنتمي للاسلام وانك تدعي امارة المؤمنين، يجب ان تكون منسجما مع نفسك. ياسين يرفض ملكا سجين تربيته كأمير وفخور بتكوينه القانوني, يستشهد بمونتيسكيو اكثر من استشهاده بالنبي. ويعتبر ان الحسن الثاني تعلم، بعدما وصل الى السلطة «اهمية التقاليد والمظاهر الدينية, بينما يواصل قراءة المجلات اللاأخلاقية» ويؤاخذ عليه كونه لم يتغير بما يكفي منذ المحاولات الانقلابية لسنة 1971 - 1972 . السيطرة على قصر الصخيرات والتي بدأ خلالها الملك يذكر الله تحت تهديد السلاح، شكلت منعطفا، لانها جعلت من الملك رجلا جديدا، الحسن الثاني الصوفي والمؤمن. ولكن هل هي توبة حقيقية؟ هل وضع الملك حدا لليالي الساهرة واللاهية في قصره؟هل وضع حدا لضياع الجماعة؟ ص 5 وينتظر ياسين من الحسن الثاني ان يلتزم بالتعهدات التي قطعها على نفسه« يا حفيد النبي، بعد خيانة الجيش قبل أكثر من سنتين، اعلنت عن صحوة اسلامية(...) يا حبيبي دعني اقدم لك النصيحة حتى لا تهلك في نار جهنم »(ص 5).
ونصيحة ياسين تتمثل في أن يقترح على الحسن الثاني تقسيما للعمل بين رجال الدولة ورجال الدعوة. هذه الفئة الأخيرة ستربي الشعب على أساس الفضائل العشر التي خصص لها عشرات الصفحات في كتابيه السابقين. هذا التوزيع للمهام لا يمكن أن يكون فعالا إلا إذا أعلن الحسن الثاني توبته علانية، وأحاط نفسه «بصحبة المؤمنين الحقيقيين» على مثال الخليفة عمر بن عبد العزيز. وكما هو الأمر دائما عند ياسين الاقتراح يتعلق به ويعود إليه، ويقول بوضوح للحسن الثاني - قبل أن يفكر هذا الأخير في المسيرة الخضراء - أن عليه أن يتلقى تربية على يده ويخضع لسلطته الدينية لأن سلطته هشة وضعيفة. «مولاي الملك، نصل إلى القضية المحورية لهذه الرسالة الشرعية التي يمكن أن تعيد الحياة للأمة، وتقودها إلى حركة النهضة [...] لا أحد في هذا البلد يطرح مسألة شرعيتك التي ترتكز عليها سلطتك، و «عرش أجدادك « من أين أتت هذه الشرعية وما هي هذه الفتنة التي سماها علماء القصر الملكية الوارتية؟ [...] يتذكر علماؤنا التقليديون اليوم الذي يبايعوك فيه بحضور والدك. كنا وقتها في نشوة الاستقلال [...] ولم ير العلماء في ذلك سوى شرفا لهم. لكن كانت تلك بيعة ولم تكن مبايعة، لأنها كانت في اتجاه واحد. لقد كانت بيعة انتزعت بالقوة ولم تكن مبايعة مسلمين أحرار اختاروا رجلا يكون قد تعهد بطاعة الله، وتقديم النصيحة وخدمتهم» (ص9). المقاربة قديمة، وتندرج بالتأكيد في استمرارية نصيحة الملوك، وهو نوع أدبي حقيقي في العالم الإسلامي. الفقهاء ينصحون الأمير ويعاتبونه بخصوص القضايا المحرمة وحول تصرفاته الأخلاقية، هذه الكتابات الموجهة إلى الأمير ليست خاصة بالرجل النزيه المسلم، في أوربا «مرايا الأمراء» تتوجه للماسك بالسلطة من أجل تربيته و تقول له كيف «تصبح ملكا، جديرا بهذا الإسم « مستشاروه يتسلحون بأقلامهم من أجل إطلاق «دعوته للتقوى» و»التواضع» و»الخضوع لله»وتذكيره بأن ما «يعطيه الله، يمكن أن يأخذه». وفي حالة ياسين هذه النصيحة تحيل على مكان مشترك: ... فصورة التحدي التي يضعها رجل الدين أمام رجل السلطة، تضخم التوتر بين البحث عن الخلاص وممارسة السلطة السياسية، بين اللامبالاة تجاه جمع هذا العالم والشغف بامتلاكها [....] فالقديس في خطاب مؤرخي القداسة هو الوسيط الاجتماعي لأنه يندد باسم الضحايا، بالتجاوزات التي ترتكبها السلطة السياسية. مثل هذا العمل قد يبدو مغلوطا، بالنسبة للحداثيين في سنة 1974، وهو كذلك بالنسبة للملك, خاصة وهو يعتبر نفسه أمير المؤمنين، لقد أوضحت لوسيت فالينسي كيف أن الملك «سيد الزمن المدني والزمن الديني» بواسطة «سياسة مدعومة لاعتبار التقاليد» سيطرت على تاريخ المغرب و أعادت مركز الذاكرة الرسمية حول الإسلام,« فهناك لدى ياسين والحسن الثاني استثمار مواز في التقليد الإسلامي كما تم التعبير عنها طيلة قرون بالمغرب، فياسين يستعمل نفس القاموس الديني الذي يستعمله الملك، ويظهر له أنه عازم على أن يتقاسم معه الموارد المرتبطة باللجوء الى التقليد في نفس السنة التي توفي فيها العلامة علال الفاسي (1974). «المنهاج النبوي»: التفكير في القطيعة واقتراح نموذج للحكم
بعد رسالة 1974، وضع الحسن الثاني هذا المستشار الذي تجاوز الحدود في مستشفى للأمراض العقلية. ورفض ياسين أي محاولة للتعاون مع الملك، وعندما استعاد حريته سنة 1978، لم يكن قد فكر بعد في القطيعة مع الملكية. لكن في إيران ها هو الخميني يصل إلى الحكم عبر الثورة الإسلامية في بداية سنة 1979، وكان لهذا الحدث تأثير حاسم على ياسين, خاصة وأن التصور الخميني للسلطة له أوجه تشابه عديدة مع مشروعه الديني والسياسي. فولاية الفقيه تذكر كثيرا بالدور الذي يلعبه رجل الدعوة عند ياسين, خاصة حب الشباب للخميني ووضعه كقائد لا تتركه غير مبال. ففي مجلة «الجماعة»عبر عن إعجابه الكبير بآية الله الخميني. واعتبر أن الصراعات بين السنة والشيعة تجووزت، وانتصار الثورة الإيرانية سنة 1979 الذي تزامن مع القرن الهجري الجديد (14 هجري) وسيطرة جهيمان القطيبي على مكة (20 نونبر 1979) كلها علامة واضحة لاختيار إلهي. وبينما لم يسبق أن تحدث ياسين في كتاباته السابقة عن تغيير النظام، بدأ يعتقد أن مثل هذا السيناريو ممكن ومأمول بالنسبة للمغرب.و من المؤشرات الدالة على أن أعضاء الجماعة يعتبرون- طبقا لرغبة المرشد - أن الكتابين اللذين اصدرهما قبل رسالة 1974، لا تعتبر جزءا من أدبيات الحركة، لأنها لا تتحدث عن القطيعة مع الأمير. وفي كتاباته سنوات 1979 - 1983 نظر ياسين للمنهاج النبوي وتحدث لأول مرة عن مفهوم الانتفاضة. ومن أجل تلطيف التناقض في كتاباته لسنوات 1971 - 1974 والتي ادان فيها بعبارات قوية الثورة كوسيلة لتغيير المجتمع، استعمل مصطلح «القومة» التي تختلف عنها بالعبارات التالية: «القومة»، كلمة استقيناها من تاريخنا، والعلماء يسمون القائمين جنود الله الذين ينتفضون في وجه المستبدين(...) والثورة هي العنف،و نحن نريد ان نكون القوة. القوة هي وضع السلطة التنفيذية في أيدي من هم شرعيون, بينما العنف هو وضعها في ايدي النزوةوالغضب «المنهاج النبوي ص 17) نص ياسين متناقض. فهو شديد اللهجة في الشكل، كما لو أنه يريد إخفاء إدانته للعنف. ياسين يريد الثورة السلمية ويرفض «الثورة العمياء» وعلى عكس مطيع مؤسس الشبيبة، المنظر للثورة الاسلامية والذي لا يتردد في اللجوء الى العنف في عدة مناسبات، فإن ياسين ليس قائد حرب وليس مستعدا للذهاب الى ابعد حدود المنطق الثوري. فالقومة لها ملامح ليلة كبرى وسيقول بعد حوالي عشرين سنة، عندما سيكون على رأس زاوية تضم آلاف الاتباع، انها قد تحدث بعد «عمل اجيال وأجيال» وفي بداية سنوات 1980 كانت حركة ماتزال في بداياتها، واوحت له الثورة الايرانية انه لابد من ضرب الحديد وهو ساخن. واعتبر انه حان الوقت لتأسيس حزب سياسي واصدار جريدة تتواصل مع الشعب. ومع مفهوم القومة، لم يعد ياسين فقط في موقف المربي، بل يقترح نموذجا يكون فيه هو الزعيم الديني والزعيم السياسي في نفس الوقت. وكتابه الشهير »المنهاج النبوي« الذي يدرس لاتباعه كمادة دينية، هو ثمرة استراتيجية كتابة تترجم طموحاته, سواء السياسية او الفقهية، عاد ياسين إلى مراكش بعد خروجه من مستشفى الامراض العقلية سنة 1978 ووجد نفسه في مواجهة هجمات انصار الشيخ السلفي عبد الرحمان المغراوي الذي اسس جمعية دينية بعد عودته من العربية السعودية. كتب المنهاج ليظهر ان صوفيته مطابقة للقرآن وللسنة، لانه اهمل موقعه في الحقل الفقهي في كتابيه الاولين. وكما يرى ماكس فيبر، الفاعل الديني يجب ان يحدد نفسه بالمقارنة مع المذاهب الاجنبية المنافسة، والحفاظ على تفوقه في الدعاية وبالتالي تأكيد الخلافات المذهبية» وبقراءة المنهاج عبر مقاربة تأويلية دينية، يمكن ان نفهم كيف يشحن ياسين الكلمات القديمة بمعنى جديد، ويدخل تغييرات بالمقارنة مع المراجع الى التقليد، يهدف خدمة مصالحه الرمزية. هذه المقاربة ضرورية لتفسير القطائع في المعنى التي تقع في السياق التي يكون لها معنى. لانه كما اوضح ذلك جاك غودي في كتابه, فالسبب البياني يمنح امكانية تفكيك النص من ظروف انتاجه. والعنوان في حد ذاته له دلالته. فهو يبدو صدى لكلام الله «لكل جعلنا منكم صراطا ومنهاجا» كما لو أن ياسين لم يختر منها سوى الجزء الثاني. وفي النهاية الشريعة تصبح ثانية بل وتدمج في المنهاج، على طريقة السيد قطب, أبرز منظري الاخوان المسلمين الذي يتحدث عن »الفكر الحركي« في تفسيره للقرآن. «المنهاج النبوي» يتكون من جزءين كبيرين, الأول ، يتكون من اربعة فصول, يطرح في نفس الوقت هدف الحركة, احياء الدين والايمان، تحقيق الانتفاضة وخلق الدولة الاسلامية والتي ليست الا تقربا من الله - ومبادئ العمل - التربية والتنظيم. وفي الجزء الثاني يطرح ياسين كيف يمكن تحقيق الاهداف وفي نفس الوقت البقاء وفيا للمبادئ التي شرحها في الجزء الاول. ويقدم «الخصال العشر»، لإحياء الايمان ويبدأ ب «الصحبة والجماعة» وينتهي بالجهاد كمبدأ في الحياة. كيف نصنف كتاب ياسين؟ لنحاول اولا رؤية ماليس هو. فهو لا يأخذ شكل كتاب فتاوى ولا كتاب فقه. وهو ليس كذلك كتاب تفسير للقرآن ولا هو كتاب حول أصول الفقه، وخلافا لحراس الفقه القرآني فهولا يقدم فتوى ولا يؤلف كتابا في الفقه ولا يطرح تفكيرا شاملا حول الشريعة, إنه كتاب لا يتبنى بالمعنى الدقيق خطابا حول القواعد القانونية في الاسلام، إذن أي نوع من الكتابة تنطبق على «المنهاج»؟ في الواقع إذا ما تجاوزنا الخطاب السياسي لياسين، فإن «المنهاج النبوي» قريب جدا، لاسيما في جزئه الثاني من بنية نصوص الصوفيين، فالغزالي وعبد القادر الجيلاني هما أهم فقيهين صوفيين يذكرهما ياسين لأنهما يشكلان المراجع الصوفية الأقل إثارة للجدل من طرف أنصار الأرتودوكسية(...) يكتب ياسين في «المنهاج النبوي» ص 130»... من الضروري على كل مؤمن (...) أن يبدأ صلاته بالفاتحة، ثم عليه أن يطلب الصفح من الله عن أخطائه، وعليه أن يطلب الرحمة الإلهية في الحياة الدنيا والحياة الآخرة لذاته ولوالديه وعائلته، وعليه أن يسلم على الملائكة والأنبياء ثم الخلفاء الراشدين وصحابة (النبي) وزوجاته».. ما يكتبه ياسين موجه لأن يطبق، فهو خطاب مناجز غير مباشر، لأنه لا يستعمل صيغة المخاطب الآمر, ولكنه يتوجه إلى المؤمن، هذا النص يظهر كيف أن انشغالات صوفية تتماشى مع التزامات ثقافية وتؤدي إلى نتائج في مجال فقه العبادات، لأن ياسين يقول الصيغ التي يجب ترديدها والأشخاص الذين يجب ذكرهم والتراتبية التي يتوجب أن تتم بها.. وعلى شاكلة كتب الغزالي والجيلاني, يعتبر كتاب ياسين «المنهاج النبوي» مؤلفا موجها للمؤمنين الحريصين على تعلم الصوفية واحترام الشريعة. ولدى الجيلاني، فإن «الفقه في الدين سبب لمعرفة النفس» وياسين يتفق كليا مع هذا الطرح ويريد إظهار أنه يرفض « تقديس الرجل الصالح» ، ويود إقناع القارئ أنه يحترم القواعد القانونية للإسلام: «الحب والاحترام والدعاء في حدود الشريعة ,هذا ما يلائم الرجال الصالحين في هذه الأمة الاسلامية, سواء كانوا أحياء أو موتى«« ص 127 .ونقلا عن الجيلاني يقول: »هذا الرجل الصالح - رحمه الله - ليس الشاهد الوحيد عن هذا السر الذي هو صحبة أولياء الله، نرجع إليه لأن هناك إجماعا لعلماء الأمة على ورعه.. وتقواه (ص128)«. ورغبة منه في السيرعلى تقاليد فقهاء السنة لمواجهة هجمات السلفيين، ومن خلال بناء مؤلفه على نمط مجالس الصوفية للجيلاني، يستعمل ياسين في نهاية كل فصل ما يسميه «شعب الإيمان»المشكلة من أحاديث كدعم ديني وفقهي «للفضائل العشرة« والأحاديث تتوزع تبعا لهذه الفضائل بين الأولى التي تتحدث عن حب الله ورسوله والأخيرة التي تشير إلى دعوة الله العلي الرحيم. الصوفية والسياسة
هذه الجهود للتوفيق بين مقاربات الدين المتناقضة في بعض الأحيان، هي كذلك محددات في بنية المنهاج كما هي رغبة ياسين في تغيير المجتمع بتطبيق التعاليم الصوفية. ومشروعه يبحث عن ضمان أولوية الديني في الحياة الاجتماعية والسياسية: « إن برنامج التربية والتنظيم الذي نقدمه لا يمكن أن يطبق إلا في حالتين: - إذا كان الحاكمون منسجمون مع مبادئهم المعلنة في الحرية العامة. وبالتالي سيقبلون بوجود حركة إسلامية معترف بها إلى جانب الحركات الأخرى والأحزاب السياسية وأقل ما يمكن أن نطالب به حكام المسلمين هو أن يعترفوا بحق الشعب المسلم في ممارسة الإسلام دون تعليمات أو قمع من الحكومة«« - إذا اعترف الحاكمون بأخطائهم في قمع الإسلاميين، وإذا ما التزموا بدعم الحركة الإسلامية حتى يتصالحوا مع الله ومع الشعب المسلم وإذا ما اثبتوا ذلك من خلال توقيع ميثاق مع الله والمؤمنين. هذا الاتفاق يلزمهم بالحكم بما شرع الله بعد مرحلة انتقالية تكون فيها للمؤمنين الحرية الكاملة والدعم الكامل في بناء كيان سياسي إسلامي سيعد لانتخابات ودستور وحكومة (ص2). فالمشروع السياسي لياسين تحدده بشكل كبير الفكرة التي يتصورها لعلاقة المؤمنين بالله، أي العلاقة الصوفية, ليس فقط مكانة الشيخ الوسيط بين الله والناس ضرورية، بل التسامي الذي يعيشه خلال الطقوس الصوفية والإحساس بالسمو والتقرب من الله يجب أن يكون حاضرا في كل اللحظات وفي كل أفعال الناس. وبنية الكتاب دالة في هذا الصدد. لقد خصص الأهم في كتابه «الخصال العشرة» التي تمكن الإنسان من إحياء الإيمان، وبالتالي فياسين يستلهم بشكل كبير المواضيع الصوفية: الصحبة، الذكر، الصدق، البدل، العلم، الجهاد في النفس. لكن يتعين رؤية أنه في المنهاج، يتبلور فكر ياسين دائما في مجال التربية والتنظيم. والتوتر دائم بين تربية صوفية وعمل يتوخى القطيعة مع العالم. لنأخذ مثال الصحبة التي يستند فيها ياسين إلى كتابات الجيلاني. وبخصوص ضرورة شيخ مربي بالنسبة للذي يطمح للوصول إلى الله ومعرفته والتقرب منه، فإن الجيلاني يقول:»إصبح صديق ملهمي القلوب حتى يكون لك قلب. لا يمكنك أن تستغني عن شيخ حكيم يعمل بأحكام الله العلي الرحيم، يعطيك العلم وينصحك«« ص(128). ومادام يتطرق للصحبة في سياق التربية، فإن ياسين يقتصر على التعلم الصوفي الذي يقوم به شيخ، وعندما يتطرق للصحبة من وجهة نظر التنظيم، أي عندما يفكر في العمل، فإنه يحول الشيخ الصوفي إلى قائد سياسي. «في الإسلام، الدعوة تسبق الدولة، وإذا ما اجتمعت الدعوة والدولة في يد جماعة المسلمين، فإن للأمير وظيفة مربي لا تنفصل عن وظيفته في السلطة. وهذه الأخيرة ترتكز على تلك وتتقوى بها. نطيع الماسكين بالسلطة الشرعية من بيننا لأن الله أمرنا بذلك ولا يمكن أن نتجاوز العقد مع الأمير لأنه عقد شرعي. وطاعة الأمير وفضائل صحبته وكذا الاعتبار والتقدير الذي نكن له تستمد من الممارسة الثقافية (ص 132)«. هذا الدمج للمبادئ الصوفية في العمل السياسي يعممه ياسين في خصاله العشرة. وحتى الطقوس الصوفية مثل جلسات الذكر التي تبدو، مبدئيا، بعيدة عن العمل السياسي, موجودة في المشروع الياسيني. ولدى الصوفيين، فإن الذكر تذكير واستذكار لله. ويمكن من تقوية الإيمان من جلال ترديد الصيغ التي يعطيها الشيخ آلاف المرات في اليوم. وفي هذا الصدد، فإنها أفضل وسيلة للتقرب من الله، ويشير ياسين مرة أخرى للجيلاني: »قال (الجيلاني): »من يتقوى إيمانه وينجح في إصلاحه، يرى بقلبه كل ما أخبره به الله في اليوم الآخر. فهو يرى الجنة والنار وما فيهما. يرى الصور والملائكة التي تساعده. ويرى الأشياء كما هي. يرى الحياة الدنيا وغروبها وتغير أحوال الناس، يرى المخلوقات كقبور تتقدم، وإذا رأى أبعد من القبور، سيحس بما يحمله من آلام ورعاية إلهية. يرى في اليوم الآخر القدرة الكبرى وحسن الأحوال. يرى رحمة الله والعذاب الذي يمكن أن يسلطه (ص 148)«. وفي سطور أخرى، بعد ذلك، يعتبر ياسين أن هذه اللحظات من الذكر ليست موجهة لـ «طلب النجاح أو المفاخر للذات. على العكس، يتعلق الأمر بأن يُطلب من الله السماح للمؤمن. وأن يرفعه في سلم القرب منه وأن يعطيه كل الإيمان وخير الإحسان» (ص 149). وعندما يصل إلى الذكر من وجهة نظر التنظيم، بعد أن تطرق للذكر من زاوية التربية، يحول مرة أخرى الاشتراطات الصوفية إلى أنماط عمل: «فالذِّكر ليس فقط عملا مخلصاً على مستوى الضمائر والكلمات والطقوس الخارجية التي يمارسها المؤمن. الذكر يعني أيضاً الوقوف بين يدي الله خلال الصلاة [...] أي الاستعداد لتطبيق شرع الله في جميع ميادين السلطة والسياسة والاقتصاد والمجتمع والعدل والثقافة والجهاد (ص 149). وإذا ما أخذنا الذكر في شكله التاريخي (وخاصة لدى الجيلاني)، فإنه طريق التخلي عن الحياة في العالم. وبالنسبة لياسين، فإن الذكر ليس فقط عملا على الذات، في أعماق نفس المؤمن الموجه للتقرب من الله. فهو أيضاً تذكير للمجتمع بالله في كل اللحظات ونمط للاستعداد للعمل الاجتماعي والسياسي. في الزمن البعيد لتاريخ الإسلام، يمكن أن نرجع مشروع ياسين، وفي العمق مشروع عدد من الحركات الاسلامية الحديثة إلى مجرد ألفية يكون فيها هو نفسه صورة أخروية (اسكاتولوجية)، المهدي الذي هو كزعيم منتظر، «سيرتفع» ليطلق تحولا اجتماعياً كبيراً من أجل إرساء واستعادة صفاء الأزمنة الأولى بوضع كل شيء تحت قيادة إلهية. سنهتم أكثر بالطريقة التي ينفذ بها ياسين وأتباعه هذه» «اليوتوبيا المكتوبة»، حسب تعبير جان سيغي، هذه «اليوتوبيا الممارسة« كظاهرة اجتماعية، تميل الى تحقيق توافقات مع العالم و «الانخراط في إحداثيات الزمان والمكان».
نمو وقمع الجماعة..
نشر ياسين، بالتواتر، «المنهاج» في مجلة «الجماعة» التي أنشأها في سنة 1979. كان طموحه وضع النموذج والمرور إلى المرحلة الهجومية (الزحف)، مع بداية الثمانينات. لقد نزل إلى ساحة الفعل العمومي من خلال إنشاء حزب سياسي ووسيلة إعلام للتواصل مع الشعب. لكنه ووجه بقمع المخزن، الذي أنهى هذه المحاولة. وفي محاكمة 1984، عبر ياسين عن نهاية مغامرته تلك: « لقد أردنا تأسيس حزب مغربي ضمن الدستور الحالي، بالشكل الذي يسمح لنا بالمشاركة في المجال السياسي الوطني وأن نطالب بإصلاحات (...). وأيضا للتعريف بأرائنا، ولقد قررنا إصدار جريدة موضوعها السياسة بالدرجة الأولى. ومن أجل تهييئ الرأي العام لنشاطنا الحزبي نشرنا هذه الجريدة بعنوان «الصبح» وتبنينا الآية القرآنية: «أليس الصبح بقريب».». وحتى يهب ياسين لحركته شرعية، فإنه قد أسس سنة 1983 جماعة خيرية. كان يظن أن ذلك يعكس الطبيعة الدينية لجماعته. لكنه ووجه بتحد حين قرر عدم الإكتفاء بالوعض إلى الفعل في الساحة العمومية. فبعد 4 سنوات من الثورة الإيرانية، رأى أن الوقت حان لمرحلة هجومية: فتوجه مباشرة إلى الشعب، من خلال إثارة المساس بالقيم الدينية، ومنتقدا فساد المؤسسات القائمة، دون تحديد واضح، حتى يتجاوز المخزن عن حركته. والآية القرآنية «أليس الصبح بقريب»، التي وضعها شعارا لجريدته، ينبئ عن حلمه بقرب تحقيق القومة، التي ستحمله السلطة مثل الخميني بإيران. بنشره لصحيفة «الصبح»، كان ياسين يعتقد واهما أن المخزن سيغمض عينيه مثلما فعل مع جريدة «الجماعة». كان أمله، من خلال عدم مهاجمة السلطة مباشرة، أن القصر سيمنحه حق تأسيس حزب سياسي. لكن طلبه رفض من قبل الدولة، التي منحته في البداية وصل جمعية خيرية محدد عملها في العمل الديني. وكان مبرر المنع يتأسس على رفض تأسيس أي حزب ذي مرجعية دينية. هذا الفشل، سيعوض بهامش التعبير الذي منح له داخل السجن.، فخلال سنوات الإعتقال (1984 و 1985)، كان مسموحا له بإعطاء دروس دينية، وسمح لعشرات الشباب بزيارته من أجل الإستزادة من دروسه تلك. حين غادر السجن، عمل ياسين على تنظيم حركته وأطلق عليها سنة 1987 إسم جماعة العدل والإحسان. لكنه لن ينعم بالحرية المطلقة سوى أربع سنوات، لأنه سيصبح تحت الإقامة الجبرية ابتداء من دجنبر 1989، فيما اعتقل باقي قادة الجماعة ووضعوا في السجن. وعلى عكس محاكمة 1984، فإن محاكمات 1989 و 1990، التي رغم أنها محاكمات سياسية، فإنها لم تهدف وأد القضاء على محاولة ياسين، الذي فهم الحدود التي لا يسمح بتجاوزها. لقد كانت محاكمات استفاد فيها المخزن من دروس ما يقع بالجزائر الجارة مع جبهة الإنقاذ الإسلامية. وفي يوم 5 دجنبر 1989 حوكم 20 من أعضاء الجماعة بتارودانت. ويوم 8 يناير 1990، عشرة آخرون ضمنهم منير الركراكي (صهر ياسين) الذين اعتقلوا بالقنيطرة وحوكموا بها. ويوم 22 يناير 1990، اعتقلت الشرطة القضائية بسلا خمسة من مجلس الإرشاد وزوج ابنته نادية، عبد الله الشيباني، وهم في طريقهم إلى بيت زعيمهم لإجتماعهم الأسبوعي معه. ويوم 16 مارس 1990 حكم عليهم بسنتين سجنا نافذة بتهمة الإنتماء إلى جماعة غير مرخص لها وبتهديد الأمن العام، وهو الحكم الذي تم تأكيده في الإستئناف في يوليوز 1990. كانت هذه المحاكمات، مع وضع ياسين تحت الإقامة الجبرية، الباعث الرئيسي للنمو الكبير للحركة. وحين أطلق سراح أعضاء مجلس الإرشاد، في يناير 1992، وجدوا أن عدد الأتباع تضاعف مرات ومرات، وأن طلبة الجماعة في الكليات في موقع قوة. وإذا ما وجدنا جريدة ليبراسيون الفرنسية تصف حركة ياسين في 1990 بالجماعة الصغيرة، فإن سنوات الإعتقال كانت مفيدة لها. وليس ذلك السبب الوحيد، الذي جعل النظام، لا يفتح محاكمات ضدها، بل إن الحسن الثاني، قد باشر نوعا من الإنفتاح على الجماعة ابتداء من سنوات 1990 و 1992. لقد فهم أنه سيخسر أكثر في حال تواصل المحاكمات، ضد جماعة تلتزم باحترام الخطوط الحمر. هكذا، فبعد إطلاق سراح قادتها سنة 1992، سمح المخزن عموما للجماعة بالتواجد والعمل بحرية، طالما أنها لم تحتل الشارع. وسمح للزوار والأتباع بزيارة ياسين في بيته الموضوع تحت الإقامة الجبرية. هذا الإتفاق الضمني بين الحسن الثاني وياسين، منح لهذا الأخير إمكانية التفرغ لتربية الجماعة التي أرادها تابعة كلية لشخصه. ولأجل تحقيق ذلك، أي تحقيق حلم القيادة المادية والروحية للجماعة، كما حدده في «المنهاج» كان لابد من إزاحة كل المنافسين الذين قد يشوشون عليه أو الذين لن يلتزموا تماما بنهجه. وانتهى الصراع المتفجر سنة 1995 بطرد البشيري. فبين رؤيتين للعالم ومفهومين دينيين، انتصر تصور ياسين بدون عناء.
المنعطف.. طرد البشيري من الجماعة
كان محمد البشيري، الذي ولد سنة 1949، أستاذا للأدب العربي حين تعرف على ياسين حين مغادرته السجن سنة 1979. لقد قام البشيري، الذي كان أصهاره يقطنون في بيت مقابل لبيت ياسين في مراكش، بزيارة مجاملة لياسين حينها. فسارع هذا الأخير بأن طلب من البشيري أن يساعده في الدعوة الإسلامية، وقبل. وعلى عكس كل رفاقه الذي جايلوه منذ العهد الوتشيشي، والذين كانوا ينظرون إليه نظرة الشيخ، فإن البشيري لم يكن ينظر إليه إلا بالرؤية السياسية، ولم يكن مرتاحا قط للصوفية. كانت الحركة لا تزال في بداياتها، ولم يكن ياسين مستعدا للتخلي عن رجل مثله. فقد كانت لدروسه، في مسجد حي الأمل بالدارالبيضاء نتائج واضحة في زيادة عدد الأتباع، في بداية الثمانينات. كان البشيري المعروف بخطابته، مغرما بدروس التوعية السياسية. كان «يعرف أن يتحدث في أمور واقعية ملموسة ويناقش قضايا الناس الحقيقية. كانت تطرح أمامه قضايا العدل والشرطة والجيش، وكان يجيب بأسلوبه المقنع من خلال حالات محددة». كان البشيري يخاطب العامة بالدارجة المغربية، وبخاصة دارجة أهل الدارالبيضاء. كانت أشرطته الصوتية أو أشرطة الفيديو تباع بالمئات أمام مساجد الدارالبيضاء، والكثير من طلبة كلية الطب بالدارالبيضاء كانوا مغرمين بدروسه. وكان يكفي اعتقاله ومحاكمته والحكم عليه بالسجن بسلا سنتي 1990 و 1992، ليولد الزعيم الكاريزمي. مع هذا النجاح، أصبح البشيري منافسا لياسين وليس مريدا تابعا له. لقد اتسع حجم الأتباع بعد تلك المحاكمة التي طالت سنة 1990 مجلس الإرشاد، فقرر ياسين عدم ترك الدارالبيضاء، التي تضم أكبر عدد من الأتباع في يد البشيري. فقرر سنة 1995 تأسيس «مجلس النصيحة» من أجل تعميم الورد الصوفي، الذي كان محصورا في أجزاء من التنظيم. فاعترض البشيري على ذلك. فدعى ياسين مجلس الإرشاد للإجتماع (والبشيري عضو بارز ومؤثر فيه) وحصل منهم على قرار طرد البشيري، دون معارضة أي عضو من أعضاء المجلس. غادر جزء من الأتباع الجماعة بالدارالبيضاء (خاصة من كلية الطب)، لكن النزيف التنظيمي لم يقع. لقد قدم ياسين الطرد، كقرار فردي إرادي للبشيري، فغاص هذا الأخير في صمت مطبق. وكان لابد من انتظار شهر نونبر 1996، أي 14 شهرا بعد قرار طرده، من أجل أن يعطي البشيري روايته الخاصة لما وقع، من خلال شريط فيديو أسماه «بيان الحقيقة». حسب البشيري، لم يكن متفقا قط بينه وبين ياسين أن يتم تعميم الورد الصوفي على كل الأتباع: « (...) إنه أمر ذاتي مرتبط بالقلب وكنت أرى أن هذا الأمر لا سلطة لي عليه. حقيقة، كنا نشتم رائحة الصوفية في كتابات ياسين، لكنني كنت أكتفي بالتوقف عند معاني الكلمات وكان يكتب أنه علينا التشبث بالكتاب والسنة». لم يكن ليشك في الأمر، لأن «النظام الداخلي لا يشير قط إلى إلزامية التصوف»، وكان يعتقد أن «ياسين سوف يصلح حاله وسوف يتخلى عن تلك الطرق». حين كان الأتباع يجتمعون، كان البشيري يمنع الجماعة من أي سبيل للإنسياق وراء الطريقة (الصوفية)، سواء في التعابير أو في الممارسة. لقد اعتبر أنه خدل: «لقد انخدعت بما قاله لي ياسين، حين صرح لي: «إن الأساسي هو أن نتشبث بتطبيق السنة في سلوكنا، وحين ستكون أنت مكلفا بتوسيع الحركة سأتكفل أنا بالتنظيم الداخلي لها».». دون علم البشيري، كان عدد من الأعضاء البارزين بفاس يمارسون طقوسل صوفية تحت إمرة منير الركراكي صهر ياسين. لقد طلب من الحضور إحياء الصوفية داخل الجماعة. بل لقد كلفوا بالبحث عن الأتباع الذين لهم استعداد من أجل ذلك، وكذلك تحديد الذين هم ضده. لقد حاول البشيري التصدي لأصحاب الطرقية، الذين كانوا يرون في ياسين هدية إلهية الذي ليس ملزما بطلب التزكية من أحد، لأنه الوالي المرشد على مدى الحياة، وكل من عارضه فقد ارتكب إثما. لقد حاول الرهان على المجلس الجهوي للدارالبيضاء، الذي كان تابعا له، لأنهم بادروا إلى مراسلة ياسين ومجلس الإرشاد، يطالبونهم فيها بعدم تبني فكرة «مجلس النصيحة». حاول ياسين ثلاث مرات، أن يلين من موقف البشيري أمام أعضاء مجلس الإرشاد. ولأن البشيري رفض ذلك، فإن أتباع ياسين سيتسفزونه. لقد قال فتح الله أرسلان (وهو تابع وفي، سيصبح بعد ذلك الناطق الرسمي للجماعة وأبرز وجوه السياسية)، للبشيري: «كيف أمكنك معارضة الشيخ؟. أنا نفسي لن أعارضه قط حتى لا أستثير لعنته. بدونه فإن اعتقادي سيقع في المحضور. إن تكرم الشيخ ورضاه هما الضمانة لسلامة صلاتي. وكل شخص غير ممتثل له لن يحوز رضاه». أجابه البشيري قائلا: «ليس لكم غير أن تعلنوا للعموم أنكم زاوية صوفية. وضعوا فوق رأس شيخكم زيا مناسبا واطلبوا منه الورد». فرد عليه أرسلان: «ذلك ما سنقوم به في الوقت المناسب». في يوم الحسم، طلب منه أعضاء مجلس الإرشاد، أن يحضر اجتماعا من أجل إلغاء «مجلس النصيحة». لقد طمأنوه أنه هذه المرة لن يكون وحده أمام ياسين. حين وصل البشيري إلى سلا لحضور الإجتماع، ألزمه ياسين بضرورة كتابة استقالته وأن يبعثها له خلال ثلاثة أيام. وأخبره أن حضوره ليس ضروريا حين سيقرأ الرسالة على أعضاء المجلس. افترقوا على كلمات ياسين هذه: « علي قطع رجلي اليسرى، قبل أن يستفحل الداء في باقي جسدي». وبعد أكثر من سنة على طرده، توجه البشيري بالخطاب إلى ياسين، على الشكل التالي في ذلك الفيديو: «كيف أمكنك معاملتي بتلك الطريقة وأنا الذي كنت أقوم بالدعوة لك عند الناس. كنت أدافع عنك من تهم الصوفية والخرافات، بينما كل هذا في دمك. لقد خدلتني وحين تأكدت من هيمنتك على الجماعة رميتني كالزبالة. أنت وفقراؤك، قد كذبتم على الإخوة حين قلتم لهم إنني قدمت استقالتي. بينما أنت أعلم أكثر من غيرك، أن الكذب والإيمان لا يجتمعان في قلب مؤمن. لقد قلت لهم إن من زارني أو استمع لأشرطتي سيطرد. لقد مسحت وجودي وذكراي من الجماعة. (...) لم لا تقول لهم إنك ترغب في تقديسك من قبل الإخوة، خاصة الجهال منهم والوصوليون، وأنك تريد إشباع رغبتك في المشيخة التي تسكنك؟ لم لا تقول لهم، إنك تريد مداواة جرح طردك من البوتشيشية، وفشلك في أن تكون خليفة الشيخ بها؟. الآن بإمكانك أن تقول للبوتشيشية: أخيرا، لقد خلقت زاويتي بعرق جبيني، آه، عفوك اللهم، أردت أن أقول برؤاي وكراماتي. تستطيع أن تقول لهم: لقد أصبحت شيخا كبيرا رغما عنكم. (...) كيف أمكنك التعامل مع الجماعة كما لو كانت ملكيتك الخاصة؟. إنك تتصرف كمدير يملك الرأسمال، ويوجه الموظفين كما يريد، ويطرد من يريد ويرقي من يريد ويرسل للسجن من يريد ويبعث الطلبة للمسلخة متى أراد. (...) كيف سمحت لنفسك بتعيين زوج ابنتك عضوا بمجلس الإرشاد وأنت موقن أنه ليس أهلا لذلك وأنه لا يرقى حتى لمرتبة أن يسير أسرة (خلية من عشرة أتباع) لأن الأعضاء فضلوا عليه أخا آخر؟. أنت أعلم أنه فاشل، وقد دفعته للإعتقال حتى يكون عينك على مجلس الإرشاد وأن يحوز شرعية تجيز له العضوية فيه بعد خروجه من السجن. (...) حين جعلت أعضاء المجلسين (مجلس الإرشاد ومجلس النصيحة) يقسمون على عدم مغادرة الجماعة طيلة حياتهم هل كان ذلك بيعة لك، والتزاما بالإمتثال الأعمى لك؟. هل كلمتهم عن حياة الرجال الشرفاء الذين لهم بركة مباشرة من الله كما يقول شيخك الروحي ابن عربي؟ كيف أقنعتهم وألزمتهم أن الشرع لا يعنيهم؟.» هذا الخلاف غني بالدلالات. من جهة، هذا يمنحنا الوقوف عند تقسيم المهام بين ياسين والبشيري: الأول مكلف بالعبادات وبالتكوين الديني للحركة وللكتابة التي تنير طريق الأتباع. والثاني، يعتمد خطاب الواقع المباشر سياسيا (دروسه حول التوعية السياسية المثال الأاكبر على ذلك)، في الأمكنة العامة. هذا التقسيم في المهام واضح بعد فشل ياسين في تأسيس حزب سياسي سنة 1984. من جهة أخرى فإن تقديس الشيخ هو قيمة مركزية ضمن الجماعة، ونظام المراقبة ضمن الجماعة يحرص على استمراره. إن الطرد من الجماعة، الذي يعاش كمأساة، يتهدد كل من يعارض الشيخ. إن تحدي قريب من الله يعرضك للعنة الإلهية. سيموت البشيري ثلاث سنوات بعد مغادرته الجماعة بسبب أزمة قلبية سنة 1995. لم يكن الأمر مجرد تنازع من أجل السلطة. بل إن نظامين رمزيين تواجها. ياسين يعزز فريقه بأقاربه في المعركة (صهره وزوج ابنته). إن علاقات الزواج وازنة والجماعة نوع من المؤسسة العائلية (نادية ابنة ياسين مطالبة بلعب دور متعاظم). إن القرب من الشيخ مطلوب والعائلة مرغوبة. والبشيري قد دخل في حرب مع سلالة ياسين، من أجل محاربة هذا التوجه في العمل الجماعي. (ليس هناك أي فرد من محيطه بالجماعة). لم يكن البشيري، أيضا، يتغيى إزالة ياسين من مهامه المقدسة، لكنه كان يأمل سيادة نوع آخر من التدبير أشبه بالسائد عند حركة التوحيد والإصلاح. في رؤيته للعالم، فإن ياسين ليس وسيطا بين الله وعباده. إنه رجل مثل باقي الرجال وليست له أية قوة خارقة. ليس هناك مكان للغيب في الأمور البشرية. على الحركة إذن أن تختار زعيمها اعتمادا على مقاييس عقلانية: الكفاءة، العمل والإستحقاق... على العكس من ذلك، فإنه بالنسبة لياسين، فإن الشيخ مختار من الله من أجل علاقة خاصة مع الماوراء. لقد نجح في طرد البشيري بيسر، لأن توزيع المهام التي خصه بها قد عززت سلطته. فمن خلال تكفله بالقضايا الداخلية فإنه حرص على أن يمارس مسؤولو الجماعة (سريا في مرحلة أولى) الأوراد الصوفية الموجبة للإمتثال للشيخ، المقرب من الله. ورغم أن البشيري كان على علم بهذه المسلكيات فإنه استصغر الأمر: كل أعضاء مجلس الإرشاد، التي هي أعلى مؤسسة في الجماعة، أصبحوا تابعين أوفياء لياسين، الذي يلزمهم بالوفاء. لقد بايعوه، مثل كل أعضاء الجماعة، وتلك ميزته عن باقي أعضائها بالبيعة. والسابقون في الجماعة الذين كانوا معه في الزاوية البوتشيشية حتى قبل رسالته إلى الحسن الثاني، كانوا الأوائل الذين تبعوه، قبل أن يؤمن به أحد.
الوفاء الكامل للشيخ..
على طريقة لقاء ياسين بالشيخ بالزاوية البوتشيشية، فإن الأتباع يحبون دوما أن يحكوا قصة امتثالهم للرجل المقدس الذي وهبوه روحهم. فخلال زيارة للشيخ من قبل عدد من الأتباع، كان ياسين، بعد أن يستعرض نوع العلاقة التي كانت تربطه بشيخه، يطلب من أعضاء مجلس الإرشاد المحيطين به جلوسا، أن يحكوا قصتهم الخاصة معه. ومثل مرضى شفوا من داء عضال، يتحدثون عن ما قبل وما بعد (التعرف على الشيخ وملاقاته): «كنت أنتمي للتيار الإسلامي خلال السبعينات ولم أكن مرتاحا. وقعت في حبال الوسواس الخناس، وفكرت في الإنتحار، كانت حياتي جحيما. بحتث عن حلول في الكتب، وحتى لو قرأت آلاف الكتب وحدك، فإن ذلك لا يعينك على الفهم. لقد دلني الله على سي عبد السلام. في اليوم الأول الذي التقيته، أزال عني الوسواس. بالدعاء من لسانه رفع ورفعه الله. لقد أزال الله عني البلاء. إنه رجل رباني، ينتسب إلى الله. (منير الركراكي، شقيق زوجته). «كنت انتمي لأقصى اليسار، ثم التحقت بالشبيبة. كنت أوزع المنشورات أمام الثانويات والمدارس. كنت ألصق المنشورات ضد الظلم. ثم وقعت خلافات داخل الشبيبة. كنت أنا بدوري موزعا داخليا. كنت أتساءل لم هم منقسمون؟ فبدأت أقرأ كتبا عن تربية الذات. فبدأت أطبق ما أقرأه، فوقعت في الوسواس. كنت آمل أن يزول ضري، لكن أصبح الامر خطيرا. فبعث لي الله رجلا قال لي: سيدي عبد السلام هو غايتك. فعلا، حين التقيته زالت كل أمراضي. إنها شهادة أمام الله. إني مدين له بكل شئ، خاصة حين رأيت كيف جن بعض أصدقائي وانتحر آخرون. ليضعنا الله في طريق العارفين به. (عبد الكريم العلمي. عضو مجلس الإرشاد والكاتب الخاص لياسين). «كنت طالبا مغرما بالموسيقى الغربية. كنت عازفا على الباتري ضمن فرقة موسيقية. كانت فرقة ناس الغيوان قد بدأت تشتهر. كنت سأسافر مع فرقة إلى أمريكا. كنت ألعب الكرة مع فريق الفتح. كنت حيويا، ثم جاءتني الهداية. كانت عائلتي تنتمي للزاوية البوتشيشية، التي كنت أحتك بها. فأعادني الله إلى الإسلام. لقد عشت تجربة أخرى مع الوهابيين. التقيت أناسا قالوا إن الجميع كافر ماعدانا نحن. ومن لم يقم بكذا أو يصلي بهذه الطريقة فهو كافر. تصبح عالما بسرعة مع أولئك القوم. لا نعرف غير حديثين نبويين، فندعي معرفة كل شئ. كانت هذه الفترة أخطر من سابقتها، لأن لذلك أثرا على الناس وليس علي وحدي. كنت أقول أنا أعرف لكن الآخرين لا يعلمون. اللقاء مع هذا السيد حماني. لقد أوضح لي أن السلفيين الذين يتبعون فقط الحديث لا يتبعون غير السنة والسواك. لقد علمني أن السنة هي رباطي مع الله في الباطن والظاهر. إنه مشروع الأمة الذي أحمله في قلبي كي أكون رجل الجهاد بالمحبة والإخاء. حب الناس من أجل خيرهم. اتباع السنة كما كان عليه الرسول مع الأمة. كان حليما مع الناس في الوقت الذي كانوا يطردونه ويضربونه. كان يقول لربه: سامحهم إنهم لا يعلمون ما يفعلون. ليرنا الله الصواب.» (فتح الله أرسلان. الوجه السياسي البارز للجماعة). «كنت حائرا. فعلمنا أن نحاسب أنفسنا قبل الآخرين. كنت أقضي وقتي في المقاهي حتى الثانية صباحا. بعضهم اتهمني بالجنون ومنهم من قال إنني عميل للمخابرات الأمريكية. فأخرجني من وضعيتي تلك. حين أنظر للآخرين يبددون وقتهم في المقاهي أبكي وأتألم. لم أعد أدخن، لم أعد أسكر. لقد خلصني من أمراضي النفسية. لقد حن علي الله بالشفقة من أجل الأمة. إنه شرف لنا. إن للشيخ أثرا أكبر من الآباء. بفضله عرفت طريق التوبة». (العلوي السليماني، أول رفاق ياسين والموقع على رسالة 1974). كل حكاية تندرج في نفس البنية: انخراط المريد في سن عاقلة. أزمة نفسية. والبحث عن الذات. لقاء مع الشيخ. فحياة جديدة. والزمن السابق على اللقاء الميلاد غير محبوب. فالعالم بدون الشيخ لا معنى له. فاللقاء معه تنهي الذات التي تعود إلى الحياة وقد تحولت بفضل نصائحه والإمتثال لرؤيته. هذه الشهادات هي طريقة من أعضاء مجلس الإرشاد لتأكيد ولائهم تجاه ياسين، مثلما أنها تقدم المثال للأتباع حول قيمة الصحبة. تعلمهم طريقة التعامل مع الشيخ وأيضا مع رفاقه. فهؤلاء موضوع طهارة لأنهم المقربون منه. للتقرب من الشيخ والفوز ببركاته على الأتباع البسطاء أن يمتثلوا لهم. في المقابل يمنح ياسين لأوفيائه سلطة تمثيلية للإرشاد، التي لا يمكن لياسين التفرغ لها. والبشيري لم يكن يرى في نفسه مريدا. لهذا كان هناك خمسة أعضاء: محمد العلوي، فتح الله أرسلان، عبد الواحد المتوكل، محمد العبادي ومحمد البشيري. وبعد طرد البشيري سنة 1995، وسعه ياسين إلى أعضاء جدد، كلهم التحقوا بالجماعة في الثمانينات، وكلهم أوفياء له، فوسع من سلطته. وكل هؤلاء مختارون بحسب انتمائهم الجهوي: منير الركراكي (صهره شقيق زوجته) لجهة فاس ومكناس. محمد برشي من الدار البيضاء، عيسى المشرقي لجهة تطوان طنجة. عمر أمكاسو لجهة أكادير. عبد الكريم العلمي الكاتب الخاص للشيخ، لجهة سلا.. مثلما خص ياسين رفاقه القدامى بمسؤولية جهات أخرى: العلوي، أقدم رفاقه والأكبر سنا على جهة مراكش. العبادي وجدة. المتوكل السكرتير العام للدائرة السياسية، عن آسفي. وفتح الله أرسلان، الناطق الرسمي للجماعة عن الرباط. وبسبب مسؤوليات هذين الأخيرين، فإن دورهما الجهوي قد تراجع. ولضمان الفعالية، فإن ياسين ينتظر منهم اجتهادا كاملا. ففي وثيقة داخلية نستطيع أن نقرأ: «(...) أعضاء مجلس الإرشاد هم المربون وعلماء الجماعة. بحركتهم في وسط الجماعة يعم الإيمان. بقراراتهم وصلواتهم تتحقق كل الأماني. إنهم حراس الحق والقيادة جنب الشيخ». ولمنع أعضاء مجلس الإرشاد من امتلاك سلطة كبرى، فإن ياسين قد عدد درجات المسؤولية. فبوضعه لمجلس النصيحة، الذي يسمح للأتباع باتباع نهج تعبدي كل خمسة عشر يوما، أنشأ ياسين تنافسا بين مسؤوليتين. لقد عين مجموع الإخوة النصاح الذين يبايعونه وكلفهم بالنصيحة وبمهام تربوية على مستوى الجهة. وهو نفسه الذي يمنحهم الإذن لرئاسة المجلس وقيام الصلاة باسمه. وضمن التنظيم يوجد نقيب الإقليم، الذي يمارس مهامه جهويا. ومن مهامه كل المسؤوليات المادية والمالية واللوجيستيكية (مثل مكان الإجتماع). ليست لنقيب الإقليم نفس حظوة ومكانة أعضاء مجلس الإرشاد أو إخوة النصيحة، لكنه الوحيد المتحكم في التنظيم. فمسؤول النصيحة لا يمكنه القيام بأي شئ بدون المساعدة المادية من النقيب. وتحت مسؤول الجهة نجد نقيب الجهة ثم نقيب الشعبة. بهذا الشكل، خلق ياسين تنافسا بين أنواع متعددة من المسؤولية تراقب بعضها البعض. وهو مسؤول عن نجاح الحركة. بل إن تزايد أتباع الجماعة بعد اعتقال مجلس الإرشاد سنوات 1990 و 1992، قد طرح مشاكل تنظيمية حقيقية. فأشرف على وضع مسؤولين جهويين متمرسين. لقد تعلم دروسا عدة من انتفاضة البشيري ولم يعد يسمح أن يحوز عضو من مجلس الإرشاد جهة له وحده. لقد عين الأعضاء الجدد للمجلس ومسؤولي مجالس النصيحة في الآن نفسه الذي عمم التربية والورد الصوفي على كل الأتباع. لقد ضمن، عبر هذه الآلية، أن يكون الجميع مقتنعا أنه الوسيط بين الله والناس، وأنه الأب المؤسس للجماعة.
بناء الهوية الجماعية..
ليست كاريزما ياسين، ذات المعنى القيادي الذي حدده ماكس فيبر. فبالنسبة لسوسيولوجي هايدلبرغ هذا، «فإن المصلحين غير الأنبياء بإمكانهم خلق جماعة تابعة لهم». وبصفته رجل دين ودعوة فإن ياسين يعتبر عند أتباعه مجددا للدين. في بداياته الأولى، أنشأ «أسرة الجماعة»، التي تعتبر «العائلة» الأولى للجماعة. وتنامي قوته بعد محاكمة مجلس الإرشاد سنة 1992، نظر إليه كعلامة على بركة الشيخ وعلى قدرته على تكرار نموذج النبي. وعلينا الإنتباه أن ياسين لا يستعمل عبارة «حركة»، لأنه سيكون مندرجا في باب حركة اجتماعية وسياسية. على خلاف الشباب القادمين من الشبيبة الإسلامية، الذين تجمعوا حول بنكيران، وابتعدوا عن لقب «الجماعة الإسلامية» من أجل لقب «حركة التجديد والإصلاح»، بغاية اكتساب القبول والشرعية. لقد هدف ياسين إلى منح جماعته صفة التميز، لأنه بالنسبة له لا يمكن أن تكون هناك سوى جماعة واحدة، له ثقة في نفسها ولا يخترقها الشك. عمليا، فإن جماعة ياسين تتوزعها ويخترقها تياران: رفض العالم والتعايش مع العالم الذي يسمح بفتح مسارب لإدماج طرق جديدة دينية واجتماعية. حين يتحدث أتباع ياسين عن تنظيمهم فإنهم عموما يصفونه ب «الجماعة». فالإنتماء لجماعة وجدانيا، يحيل على تبني مسلكيات خاصة تمايزهم عن باقي المجتمع وعن باقي الجماعات الدينية. وتعليم فكر الشيخ يشكل مناسبة حاسمة في تكوين الهوية الدينية والإجتماعية الخاصة ب «الإخوة» و «الأخوات» داخل الجماعة. (وهي هنا شبيهة بجماعة الحميدية في مصر كما حددها م. جيلزنان). بهذا المعنى فإن ياسين، يهدف إلى «جعل الأتباع منضبطين ضمن تنظيم دائم يحدد حقوقا وواجبات». في كتابه «المنهاج النبوي»، يقدم أستاذ اللغة العربية سابقا (ربما أن الصحيح هو أنه كان مفتشا للغة الفرنسية ? م - )، بنية فكرية صعبة التمثل سواء لغويا أو نظريا. ورغم أن مربي، فإنه لم يكن يهدف ممارسة اجتهاد ديداكتيكي. لقد تبنى استراتيجية كتابة أخرى، وسعى أن يجعل من «المنهاج» نوعا من الكتاب المقدس، مأمول أن تظل أجيال وأجيال تحلله وتفك طلاسمه. علما أن ياسين لم يكن مقلا بالتحليل في «المنهاج»، مما فتح الباب للمعلمين في جماعته أن يشرحوا معاني الكتاب وفكر الشيخ للأتباع. هكذا، يعلمون للأتباع أن «المنهاج» له غايتان كبرييان: - هدف إيماني إحساني (رسم طريق الله للناس / إحياء الإيمان في القلوب / تذكير الناس بالغاية من وجودهم في الدنيا وما ينتظرهم في الأخرة). - هدف استخلافي (نشر العدل بين الأمة / جعل الحياة الإسلامية تتميما للنموذج النبوي / بناء الدولة الإسلامية / العودة إلى النموذج النبوي في الخلافة). في الشق الأول يخاطب الكتاب الفرد المحب لله، وفي الثاني يخاطب الأمة. يلقن فكر ياسين في كل شعبة. هذه التربية الدينية تأخد شكل تكوين في البيوت وفي أقسام التعليم التي يتواجد فيها أساتذة أعضاء بالجماعة. ونقيب شعبة التي تضم «أسر الحي» (خلايا قاعدية) هو الذي يتكفل بتقديم الدروس بما يجب لها من سبورة وطباشير. وتجرى امتحانات دورية مما يجعل الأتباع يأخدون تلك الدروس بالجدية اللازمة وكذا الملقنين. وينقل المعلم معرفة دينية مدققة تتعلق بتأويل آيات قرآنية وتفسير الحديث والفقه. ويقوم بذلك اعتمادا على مرجع من ثلاث مجلدات، تحت المراقبة الدائمة لياسين الذي حرر عددا من الدروس بما يجب لها من مقدمات ومفاتيح (إنها تجربة المربي التي راكمها منذ الستينات). بنية كل مجلد محددة سلفا. وتلقن سبع مواد: تفسير القرآن. ترتيل القرآن. حياة الرسول. الحديث. المنهاج النبوي. الشرع الإسلامي. اللغة العربية. وكتاب ياسين يدرس بذات القدسية التي تخصص للقرآن والأحاديث النبوية. بل إن تلقين القرآن والأحاديث يتم أساسا من أجل تعزيز فكر الشيخ وترسيخه. وتقوي من لحمة الجماعة. الغاية من ذلك كله، هي إقناع المريد بالحاجة العاطفية والروحية للإنتماء إلى الجماعة والإمتثال للشيخ. بذلك فأتباع ياسين لهم سلاح ديني قوي لمواجهة السلفيين. مثلا، يمكننا التوقف عند تفسير الفاتحة كما تلقن للأتباع. فكل مسلم مفروض فيه أن يعرف هذه السورة، لأنها إلزامية في كل صلاة وفي كل جنازة وفي كل زواج. في الفقرة المخصصة لها ضمن منهاج الجماعة، على المعلم أن يحرص على جعل المريد يتمثل فيها النقط الآتية: - عليه إدراك فائدة الفاتحة. - عليه إدراك الحاجة الملحة للصحبة وأن يكون من المنعم عليهم لاتباع طريق الله. - عليه مراقبة إخلاصه وتجهده في النية في الفعل والكلام. - عليه أن يبدأ كل فعل باسم الله. - عليه أن يحرص أن يبقى ضمن الجماعة المؤمنة. (المجلد الثالث. ص.8). وكي يصل المعلمون إلى «غاياتهم البيداغوجية» عليهم الإعتماد على الرازي في كتابه «الفتح الكبير». (...) كاتب المرجع التعليمي يعلق على كتاب ياسين قائلا: «بهذا نفهم أهمية الشيخ، الولي المرشد المربي. الذي هو القائد الدال على الله. علينا أن لا نتفاجأ حين نجد عالما مثل الغزالي وإماما مثل الجيلاني وآخرين يحضون على البحث عن شيخ مربي قائد».
|
|
3875 |
|
0 |
|
|
|
هام جداً قبل أن تكتبو تعليقاتكم
اضغط هنـا للكتابة بالعربية
|
|
|
|
|
|
|
|