طه لمخير
ما دامت الجماعة مصرة في هذه الأيام على إقامة أعراس العزاء وتقدم قرابين الولاء وتوقد شموع التقديس والعبودية الوفية لحضرة الإله زيوس الذي كما يصفه أحد سدنة المعبد بأنه عاش لله وبالله وفِي الله.. نوقد نحن شموعنا ونقرّب نذورنا..
وقبل أن نقدم وجبة دسمة لأولئك الذين يصمون آذانهم ويستغشون ثيابهم عن حقيقة الرجل التكفيرية وطبيعة دوغمائياته الاقصائية، وروحه المريضة المظلمة، ومزاجه العكر وقلمه القذر؛ فإننا نذكر بمقولة قديمة مشهورة بين سكان ولاية شيكاغو: "إذا أردت أن تحافظ على احترامك لعمدة المدينة أو استطعامك للنقانق؛ فعليك ألا تشاهد الأول أثناء إعداده وتدريبه لتولي مهمته، ولا الثاني أثناء صناعته".
الأمر في كلتا الحالتين سيكون مقززا ومثيرا للغثيان.
وهكذا، فتلك النقانق الأيديولوجية التي يقتات عليها أعضاء جماعة العدل والإحسان ونبت عليها لحمهم الوجداني والفكري صنعت في مسلخ للأفكار الفاشية الأشد توحشا، حيث نجد ياسين يمسك ساطورا ويقُدُّ به الكلمات والتعابير والنعوت القدحية كجزار عنيف يتلذذ بحزة السكين وهو يفرّي الجلد ويفصل الأطراف..هناك في كتب الأيديولوجيا وليس في الندوات التدليسية.
والعجيب أننا في هذه النقول المختصرة التي سنعرضها على حلقات بين الفينة والأخرى نتناول فيها مقاطعfirsthand من كلام ياسين وليس الكلام الثانوي المعدّل، والاستهلاكي المنمق، والمرطّب والمزوق والمحلّى والملطّف الذي تصدره الجماعة للعموم وتمشي به في المجتمع الحقوقي لتغطي الجنح الإيديولوجية لمرشدها والمشاهد الدموية التي مارسها ياسين أدبيا ومعنويا بمنتهى البربرية والهمجية على مخالفيه، وبأسلوب بالغ السادية والرغبة الجامحة في تفريغ شحنات ثأرية مقموعة في نفس الإمام المُهَدِّد، لم يتح لها لحسن حظنا أن تتحول إلى قومة فعلية ومذابح جماعية ورؤوس معلقة على أسوار باب الأحد وقصبة لوداية..
هي مقتطفات ومستملحات موجهة لكل أولئك الذين يدافعون عن عصابة ياسين اليوم بشراسة والعصا (وأعتذر هنا على التعبير القاسي ولكنه واقع الحال) في مؤخراتهم جميعا !!. فهل يشعرون؟!
شخصيا أعلم أن الجماعة تعلم حجم الخديعة الكبرى التي تسوّم بها على الساذجين الذين يتقاطرون كالذباب الأزرق الجائع للظهور الإعلامي صوب مقراتها ذات ذكرى أو ذات منتدى ولقاء لإلقاء كلمات التأبين والتبجيل الرسمية، ومجاملة الجماعة ببعض طقوس القدح والردح والتبخيس التعميمي والعدمي في حق الدولة، وأحيانا مشاركة المؤتمرين والمتآمرين في طرح صريح فصيح لمداخلات تنظر دون حرج لقلب نظام الحكم !! دون أن يكلفوا أنفسهم إلقاء نظرة على مؤلفات الشيخ والأدبيات التي تشكل الشخصية "العدلاوية"والتي تطبعها الجماعة في مطابعها الخاصة في حلل سندسية تغري بافتضاض بكارتها الفكرية..
فإذا ما هم فعلوا تناثرت على وجوههم بقع الدم ينبثق خاثرا ساخنا من صفحات العدوان، وسلطت على أعناقهم أسنة حداد يشهرها مفتش عتيد خرج لتوه من عصر محاكم التفتيش في القرون الوسطى ملطخا بدماء اليقينية الدوغمائية والقهر الفكري والنهج الكنسي إلى تعددية مجتمعات القرن العشرين والواحد والعشرين يقطف بها رقابهم ويقبض أرواحهم، وانفتحت لعيونهم بالوعة مجاري من قاموس ياسين الخاص والفريد في السب والشتم والتقريع والتكفير والطعن في الضمائر ومصادرة الرأي والفكرة وحتى الخيال..
فليسمع أولئك التبريريون والحقانيون الحقوقيون هذه الوصلات من الرقص المقدس على جثة الديمقراطية والتعددية، والتحقير الممنهج للمخالف في الرأي والمعاند في الفكرة، ونماذج من الحوار الذي يزاوله ياسين بطريقته الخاصة مع الفضلاء الديمقراطيين.. ياسين التاريخي، ياسين من وثائقه ومقالاته وبنات أفكاره، وليس ياسين الندوات البراغماتية والبورتريهات الإعلامية.. ياسين التسويق التجاري.. ياسين الدعايات الزائفة والوثائقيات المضلِّلة في عصر لا يقرا أهله، ياسين الأخلاقي الأنواري الحقوقي التعددي الإنساني…
منشورات ومؤلفات يدرسها ويتربى عليها جيل من فتيان الجماعة وفتياتها في مجالسهم الخاصة ومساجدهم السرية التي يعقرها بين الحين والآخر جهاز أمن متيقظ وعيون تسهر على حماية أمن المواطن الروحي من عبث المتنبئين الذين عاشوا للإرهاب وبالإرهاب وفِي الارهاب، بينما لا يجد الانتهازيون اليوم سوى تنديدا رخيصا بتشميع أوكار الفاشية الكلّيانيّة التي تتدارس ما خطته يد إمامهم دوتشي الإسلاموية الأعظم المفتون بميكانزمات موسوليني في التنظيم والتلقين، الصوفي السمح البشوش الداعي إلى ربه بالحكمة والموعظة الحسنة..نفحات من أصايل طباعه وكرايم أخلاقه ورحابة صدره للخلاف كما استقيناها من افتتاحية العدد الأول لمجلة الجماعة فبراير 1979:
"الأحداث الإسلامية الضخمة التي يشهدها العالم )يقصد الأحداث في فترة 79: الثورة الإيرانية التي أعدمت الآلاف من اليساريين والليبراليين وبقر شباب الثورة الإسلامية بطون النساء السافرات في شوارع طهران، وأيضا تولي الجنرال الإسلاموي الدكتاتور ضياء الحق حكم باكستان وإعدامه اليساري ذو الفقار علي بوتو) أثارت إعجاب المنصفين يرونها تعبيرا قويا عن المشاعر الإسلامية التواقة للعدل والحرية ونبذ التبعية للفكر الجاهلي والتسلط والطاغوت…"
يضيف ياسين: "إنها يا معاشر الملحدين قومة الإسلام التي تأبى أن تحالف الكافرين لقتال الظالمين، والظالمون خبثهم مضاعف لأنهم يجمعون إلى ظلمهم نفاقا.. إن قومة الإسلام، ستطيح بالكفر ممثلا في المرتدين الماركسيين وبالنفاق ممثلا في صنف الظلمة الزنادقة من مدرسة رضابه لوي وأساتذة أتاتورك وسافك دم المسلمين عبد الناصر، إن الكفار والمنافقين دخلاء معا بيننا نحن الشعب المسلم (يقصد الإسلاميين): إن كنا من المنافقين، الزنادقة من يرعى بيننا مصالح الجاهليين حارسا حقيرا ذليلا فإن من الكفار الماركسيين يتكون جيش الغزو الفكري".
علينا الإشارة هنا إلى أن سيد قطب قذف في رحم الايدولوجيا الاسلاموية بذرة تسمية كل من يختلف مع رؤيته الشمولية الفاشية بالإلحاد والنفاق والجاهلية؛ فالإلحاد هنا ليس عدم الإيمان بالخالق ولكن عدم الإيمان بأيديولوجيا المخلوق المتقوّل على الله والمتسلط على الإرادة الإلهية…
وهذه اللوثة الوثنية - التي تجعل من المخلوق المتهافت إله يمارس وظيفة السماء في امتلاك الحقيقة والاحتفاظ الحصري بسجلات القرارات الغيبية وصكوك الرفض والقبول والثواب والعقاب ويصنف الناس بجراءة بين عدو لله وولي له-تثير شهوانية عنين مثل عبد السلام ياسين فيخصب على فراش القرطاس بقذائف التكفير ما كان ينبغي أن يخصبه على فراش الغريزة، ولكن كل يجد لنفسه مخرجا لتصريف عجزه ونعذره في ذلك.
"إننا نحذر كل متربص لغد الأمة كائدلها، ونبشر المومنين بطلائع النصر يعيد إلينا العزة بالله، إنه الإسلام أو الطوفان! فيا أيها الفتى المتوقد العزيمة، يا أيها المسلم، يا أيتها المسلمة:
يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ (هود 42) وكن حربا على الظالمين! ".
كان الرجل يكتب هذه الافتتاحية لمجلة الجماعة عام 79 وحرارة الثورة الإيرانية الوليدة لا زالت ساخنة في رأسه وهستيريا الجموع وهي تتقاطر على الخميني في طهران إذ يلوح لها بكفه كقديس نزل من السماء ليحرر الأرض من شياطينها تنعش مارد الحكم والتحكم في نفسانية ياسين التواقة إلى امتلاك الحديد والنار.. ويتمثل بالآية؛ فهو هنا النبي نوح والجماعة سفينة النجاة والمجتمع الكافر هو ذلك الابن الضال !!. ومات ياسين ومات الطوفان وبقيت الجماعة عالة على المجتمع.
فكان حينها يتقلب على الجمر لإثارة معمعان من القلاقل والفتن وإشعال هيجان عام في الشارع المغربي لعل الفوضى ترتد إليه في نهايتها بتتويج أو سلطنة أو استخلاف، فهو لذلك يبدو في هذا النص كعلبة ثقاب اشتعل رأس أحد أعوادها فهو يميل على باقي الرؤوس المجاورة ليشعلها..
نقول أيضا تصحيحا لبعض الأفكار الشائعة وهي عادة قبيحة في ياسين الذي يقتبس الأفكار من مؤلفين في المشرق عاشوا في نفس المدة ثم ينسبها لنفسه، منها مثلا عنوان وفكرة رسالة الإسلام او الطوفان، وهي في الأصل فكرة للكاتب الإسلامي السوداني الشهير الذي أعدمه الإسلاميون الحاكمون في السودان بتهمة الردة محمود محمد طه رحمه الله، وذلك بسبب منشور اسماه "هذا.. أو الطوفان" ويدور على نفس الفكرة.
"إن القومة الإسلامية –ونخشى إن استعملنا كلمة “ثورة” أن ننغلق في المفاهيم الجاهلية التي تحف بهذه الكلمة فتجعلها معنى أرضيا على مستوى الأعمال الجاهلية المقطوعة عن الله- قومة لبناء حضارة الأخوة الإسلامية وتقديمها نموذجا للإنسانية".
هنا أيضا يرتكب ياسين تزويرا تاريخيا، فالقومة والثورة كلاهما مصطلحان لم يعرفهما التراث العربي و ترجما في عهد النهضة في مصر أواخر القرن التاسع عشر وهو العصر الذي يطلق عليه العصر الليبرالي، الحقبة التي فتح فيها رفاعة الطهطاوي مدرسة الترجمة لتعريب المفاهيم الحديثة التي لم تكن معهودة عند العرب في فجر لقاءهم بالحضارة الغربية، أمثلة: التسوية ثم المساواة، والوطني ثم المواطن، وقانون وقانوني ثم دستور ودستوري، والجنسية ثم المواطنة، والحقوق الطبيعية والحقوق البشرية، والوثيقة الاجتماعية ثم عقد التآنس والاجتماع ثم اصبح بعد ذلك العقد الاجتماعي، التساهل ثم التسامح، القيام والقومة والعامية والفتنة ثم الثورة، الجمهور والمشيخة ثم الجمهورية، الشورى والمشورة واهل الحل والعقد واهل الراي ثم اخيراً البرلمان،اجتماع وهيئة ثم مجتمع…
فاستعمال هذه المصطلحات-إذا سرنا مع منطق ياسين الحاقد على كل شيء يأتي من خارج دوائر الإسلاميين-انغلاق في المفاهيم الجاهلية التي تحف بهذه الكلمات فتجعلها معنى أرضيا..
وهكذا فكل المفاهيم التي يستعملها الإسلاميون بكثافة هذه الأيام في خطابهم هي عند النظر مفاهيم العصر الحديث الجاهلي الذي يحاربونه محاربة دون كيشوت دي لامانشا بعد أن أغرق نفسه في قراءة أساطير الفرسان من عهد الإغريق والرومان والعرب حتى تلبسته حالة من الفروسية انفصل فيها عن الواقع وارتمى في أتون الوهم عندها لبس عدة حرب فولكلورية قديمة تعود لأجداده: رمح رقيق متهرئ ودرع مرقعة من جلود واتخذ من بغلة هزيلة ركوبته وأصبح منطقه ولغته تنهل من حكم وأمثال وتصورات عصور الغزو البائدة..
ثم ضرب في الأرض باحثا عن حياة الحرب والفروسية فتستحيل في عينيه كل الأحداث العادية والطبيعية التي تصادفه والمظاهر والكائنات والأشخاص إلى بؤرة حرب وكر وفر.. من العابرين على الطريق الذين يراهم في صفة عساكر مجندين يقيمون المتاريس والدوريات ليمنعوا مروره، إلى المأوى الريفي الذي يراه حصنا حربيا، إلى طواحين الهواء التي تتحول إلى جيوش جرارة لأعداء وهميين…
من هذا المنظار كان يشن "دون ياسين" حملاته على المجتمع الجاهلي وعلى أوروبا وعلى الكون برمته وهو جالس على حصيرة صنعت في الصين يستمع إلى أخبار العالم عبر مذياع صنع في ألمانيا وينتعل نعلا من مصانع فرنسا…فَلَو عصرت كتبه كلها فلن تخرج منها معجون أسنان تنظف به فمك، ولكنه الخيلاء والادعاء الفارغ لمن ليس له ما يقدمه للإنسانية سوى الوعيد والتهديد.
"وأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض".
ملاحظة: إن العجب ليس في كون عمر محب مدانا بالقتل و حامي الدين متهما بالقتل وهما يتلوان مثل هذه الأفكار على مجلة كان يوزعها أتباع ياسين في الجامعات وهي تكفر الناس خبط عشواء، بل العجيب أن لا يحركهما ذلك إلى القتل وإقامة حدود الردة على التيارات المخالفة، فالمسؤولية الأخلاقية والأدبية مشتركة، ودم آيت الجيد وغيره تفرق بين قبائل الإسلاميين.