يقول الدكتور (عبد الرحمان بدوي) رحمه الله: [التاريخ تيّار متّصل ومتدفّق، لا يقبل الانقطاع ولا الاقتطاع؛ لكنّ القصور العقلي هو الذي يضطرّنا إلى الترخص في الاقتطاع؛ وهذا التحفّظ لابدّ أن نبديه قبل السماح لأنفسنا بالتحدّث عن تطوّر الأحداث إبّان النصف الأول من القرن العشرين، وهو ما يقتضينا كذلك أن نمهّد له بمقدّماته وأحداثه، حتى يستردّ مكانه في الإطار التاريخي العام..].. لقد كان للوزير اليهودي الفرنسي [كليمُونْصُو] دورٌ بائس في مؤتمر (ڤيرساي) بقصر (المرايا) في (باريس)؛ وكان الجنيرال [فُوش] يحذّره من أنّ هذا ليس سلامًا، وإنّما هدنة لعشرين سنة فقط؛ وهكذا كان [كليمونصو] فلاّحًا جيّدا في زرع الرياح، و(فرنسا) بعده، صارت تحصد العواصف.. مات [كليمونصو] يوم (24 نونبر 1929).. مات الجنيرال [فوش] يوم (20 مارس 1929).. ولكي تعرف ما هو آتٍ، عليك أن تعْرف ما قد فات؛ هذه هي القاعدة التاريخية، وليس هناك قاعدة غيْرها في تحليل الأحداث، وما أسفرت عنه..
صار المغرب ساحةً للحرب بين (فرنسا النازية)، و(فرنسا الحرّة)، وعجّتْ مدينة (الدار البيضاء) بالجواسيس الألمان الذين كان يبحث بهم الأميرال النازي (كناريس)، وأوصى جلالةُ الملك (محمد الخامس) طيّب الله ثراه المغاربةَ بأن يلتزموا الحياد، ولا شأن لهم بتلك الحرب بين (حكومة ڤِيشّي) بقيادة (الماريشال بيتان) الموالي للألمان، و(حكومة الجنيرال ديغول) الموالي للحلفاء، حتى يرى أيّ الموقفين يصلح لمستقبل (المغرب) لنيل استقلاله؛ وكان لجلالته في ذلك حكمةٌ لا تُنكَر، وهو يعلم أنّ [فرنسا] أخلفتْ بوعدها مع السلطان (مولاي يوسف) سنة (1918).. ومن الطّريف أن يعرف القارئُ الكريم أنّ [الماريشال بيتان] هو من سنّ (عيد الأمّ) في (25 ماي 1941).. في (23 يونيو 1943) تَمّ لقاءٌ في (أنفا) بـ(الدار البيضاء) بين الرئيس الأمريكي [روزڤلت]، ورئيس الوزراء البريطاني [تشرشَل]؛ كما حضره الجنيرالان [ديغول وجيرو]، بهدف المصالحة بينهما، لكنّ اللقاءَ بينهما كان باردًا، وكان الرئيس الأمريكي يميل إلى [جيرو]، فيما كان [تشرشل] يميل إلى (ديغول)؛ وفي هذا المؤتمر، تمّ الاتفاقُ حول عملية [طورش] سنة (1944)، لكن (ستالين) لم يحضرْ، خوفًا من عميلة يقوم بها الأميرالُ النازي [كناريس] في أية لحظة.. وخلال هذا اللقاء تعهّد الرئيسُ [روزڤلت] لجلالة الملك [محمد الخامس] طيّب الله ثراه، بأن ينال [المغرب] استقلالَه بمجرّد انتهاء الحرب، وأنه سَيُشْرف شخصيًا على ذلك؛ ولكنّ الرئيس الأمريكي مات فجأة في (12 أبريل 1945)؛ و[تشرشل] خسر الانتخابات في (27 يوليوز 1945)، أمام العمّال [كليمنت أوتْلي]؛ و[ديغول] انسحب من السلطة، وقدّم استقالتَه في (21 يناير 1946)، وعادت [فرنسا] إلى عادتها في الإخلال بالوعود..
لم يكُنِ المغاربةُ مجرّد مقاتلين مشتّتين هنا وهناك كما كان الشأن في الحرب العالمية الأولى؛ بل كانوا جيوشًا منظّمة بشكل جيّد، وقد أبلوا البلاءَ الحسن في معركة [مونتي كاسّينو] على خط [غوستاڤ] ضدّ جيش الماريشال النازي [كِيسَل رِينْغ] وكانوا تحت إمرة الجنيرال الأمريكي [كلارك]، وقد سأل عن هويّتهم الهنودُ لِـمَا رأوه من شجاعة، فقيل لهم إنهم: [المغاربة].. وفي (عملية دراكون) في البحر المتوسط، كان الإنزال ناجحًا، واندفع الجيشُ المغربي شمالاً نحو (الألزاس)، ممّا جعل الجنيرال [باتون] يجد بجيشه الثالث الممرَّ سهلاً نحو [ألمانيا] ويعترف بشجاعة الجيش المغربي؛ و[باتون] هو جنيرالٌ مغرور، وعنيد، وسليط اللسان، ولا يعرف المجاملات، حيث قال: [على الجيوش أن تكون لها مثْلُ هذه الهيئة] في إشارة إلى الجيش المغربي.. هؤلاء الجنود المغاربة الذين سقطوا في [ألزاس لورين] تُنْبش قبورُهم في [فرنسا]، وتُرسَم على شواهد قبورهم (لاَسْڤَاسْتيكَا) أي (الصّليب المعْقُوفَة) كجزاء لهم على تحرير [فرنسا] من ذُلِّ النازية البغيضة: تحيا فرنسا!
وتنتهي الحربُ العالمية الثانية، وتعترف [فرنسا] الحرّة بدويْلَة [إسرائيل] المغتصبة لأرض [فلسطين]، وتنال [الكامبودج] استقلالاً شكليا، وينصّب الأمير [نورْدوم سيهانوك] ملكًا عليها؛ وترفض [فرنسا] إعطاءَ [ڤيتنام] ودول شمال إفريقيا استقلالَها، وتتوهّم أنها ما زالت إمبراطوريةً، وتزجّ بمغاربة في حرب استعمارية في [ڤيتنام]، وأصبح المغاربةُ بدورهم في كفاح ضد [فرنسا] لنيل استقلالهم، فكانت تسمّي المقاومين بالإرهابيين، فيما هم يُشْبهون المقاومين الفرنسيين خلال الاحتلال النازي.. فلو دقّقتَ النظر جيّدا، لألْفيتَ أن ما قتلتْه [فرنسا] من المسلمين في البلاد العربية، يفوق ما قتلَه النازيون من (يهود وغجر).. لو سألتَ فرنسا (الحرية، والمساواة، والإيخاء) عمّا تظنّه بخصوص مَن ضحّوا من أجل انعتاقها، لكان جوابُها: [هؤلاء مجرّد عبيد؛ ومن واجبهم الموتُ في سبيل أسيادهم].. لكن لمن تُقْرع الأجراس؟ لقد دنتْ ساعتُها في [ڤيتنام، والمغرب، والجزائر]، والمسألة مسألة وقت فقط..