صبري الحو
إن ما حققه المغرب في مجال حقوق الإنسان من تراكمات مهمة بفضل توافق الدولة مع مختلف القوى الديمقراطية الحية، في سياق دقيق عنوانه البارز الإنصاف والمصالحة، يعتبر نموذجا يقتدى من لدن بلدان المحيط الإقليمي في اتجاه الشرق الأوسط. وبكل موضوعية، وبعد استقراء تجارب مقارنة، أزعم أن المغرب حقق توافقا فريدا من نوعه.
ولذلك نجد سؤال العدالة الانتقالية يحضر مغربيا بشكل ناعم ودون تشنج في شرايين الفهم السياسي أو الايديولوجي. وبناء على كل هذا، فإن أية محاولة لتجاوز ما أسفرت عنه هيأة الإنصاف والمصالحة من تعاقد متميز يشكل مدخلا لشرعية حقوقية تثمن شرعيات أخرى وثيقة الصلة بالقواعد المؤسسة للدولة.
ومهما كانت عيوب تجربة الهيأة على مستوى تأخر مشاريع ما نسميه حقوقيا بجبر الضرر الجماعي، مقارنة مع جبر الضرر الفردي الذي مكن ضحايا سنوات الجمر والرصاص من فرص التمكين الاجتماعي من مدخل التعويض المادي عما لحقهم من انتهاكات جسيمة خلال سنوات الاحتقان العجاف، وعلى الرغم من بعض الانتقادات التي تظهر هنا وهناك تحت مبررات النقد السياسي أو الفكري، فإن ما حققه المغرب يبقى فريدا.
ويكفي أن الضحايا كانوا يعبرون عن معاناتهم جهرا وبكل حرية، واستعمال قنوات القطب العمومي في ذلك، ودون عقدة خوف منهم، ودون عقدة نقص من الدولة. ولذلك فلحظة تسوية ملفات الماضي الأليم تشكل، لا محالة، محطة لامعة في درب بناء الدولة الديمقراطية من خلال مقاربة حقوقية تنبني على طي خلافات الأمس كقاعدة لتوطيد تعاقد ديمقراطي-حقوقي جديد منسجم مع روح المفهوم الجديد للسلطة الذي قعد له خطاب أنفا عام 1999.
ومن موقع المسؤولية والموضوعية نؤكد أن الملك الراحل الحسن الثاني كان السباق، وبغض النظر عما إذا كان ذلك اختيارا منه أو تكتيكا أو كان مجبرا عليه، إلى إعلان الرغبة في طي صفحة التاريخ الأسود الذي سبب الكثير من الويلات للدولة وللشعب المغربيين. واستمر الملك محمد السادس بيقين في درب تنزيل التسوية بتوافق مع رفاق الزنازين الذي كان يتقدمهم عراب تجربة الانصاف والمصالحة الراحل ادريس بن زكري.
ولذلك يجوز التصريح بأن التجربة ستظل تحسب للملكية ولقوى اليسار التي تحملت دهاليز التعذيب، عندما كان غيرهم ينعم بالخيرات في مضمار الدعم الذي كانت توفره الولايات المتحدة الأمريكية لبعض الايديولوجيات من أجل فرملة دينامية ايديولوجيات أخرى مناقضة.
ومحصلة هكذا فهم، فإن القيام بـ" بروغاندا" قوية من أجل خطة سميت بـ" الخطة الوطنية للديمقراطية وحقوق الإنسان" يأتي في سياق القفز الغريب عن تراكم كبير حققته الدولة / اليسار من خلال التجربة الرائدة للإنصاف والمصالحة.
ومن باب المقارنة، ينبغي أن نتساءل عن الخلفيات الحضارية والأخلاقية لهذه الخطة المنزلة قهرا وخلسة دون ما يليق من مشاورات وتشارك. وفي الاتجاه نفسه، نتساءل: كيف للدولة التي تحملت الكثير من النقد اللاذع لسنوات طوال أن تتجاوز تراكما ورصيدا نوعيا نحو خطة مجثتة ومشبوهة رغم الجهد البشري والمالي الذي استهلكته تسوية الماضي الأليم عبر ميكانيزمات الإنصاف والمصالحة؟ !!ولماذا أصلا تسوق الحكومة للخطة في ظل تجاوز لدستور توافق عليه المغاربة مع الدولة من جديد في فاتح يوليوز2011؟
ووثيقة الدستور تجعل الشرعة الدولية لحقوق الإنسان من مصادر التشريع المغربي !إن مثل هذه الأسئلة المشروعة كفيلة بإلحاحية الرجوع إلى الإنصاف والمصالحة كلحظة مؤسسة للشرعية الديمقراطية، من مدخل حقوقي، بدل الهروب إلى الأمام بحثا عن الحكومة من موطئ قدم في المشهد الحقوقي، وجزء كبير منها لا يؤمن بحقوق الإنسان بل بالإقصاء!
ولأننا نعير الفعل الحقوقي أهمية قصوى في إطار اشتغالنا الحقوقي / القانوني، فإننا نؤكد أن الخطة الحكومية لا ترقى إلى مستوى ما راكمته تجربة المغرب في حلحلة تداعيات الماضي الأليم، رغم أن الحكومة تسابق الزمن لتمريرها لبناء إرث حقوقي شكلي للتاريخ، موظفة نسقا من المجتمع المدني الذي ثم تفريخه تماما وعلى المقاس للركوب على الفكر الحقوقي لغايات في نفس يعقوب.
وقد أعذر من أنذر.
*محامي بمكناس خبير في القانون الدولي - الهجرة ونزاع الصحراء