في هذه الحلقات المتبقّية، سوف أقفز فوق سنين عديدة، لأنّي سبق لي أن تحدّثتُ عنها في حلقات سابقة خاصة بالحرب العالمية الأولى [1914 ــ 1918]؛ وسأبدأ في عجالة من سنة [1921]؛ احتفتْ [فرنسا] في احتفال كبير في (قوس النصر) بـ(باريس) يوم (29 يناير 1921) بالجندي المجهول، الذي سقط في الحرب العالمية الأولى. في هذا الاحتفال، لم يُذْكَرْ بتاتا الجنديُّ المغربي، ومعلوم أنّ المغاربة الذين شاركوا في هذه الحرب، تجاوز عددُهم (47) ألف جندي؛ مات منهم سبعة آلاف في الأراضي الفرنسية، وبقي منهم على قيد الحياة (40) ألفًا، عادوا إلى أرض الوطن، وانتفضوا ضدّ [فرنسا]، لأنهم كانوا يعتقدون أنها ستعترف بتضحياتهم، وتمنح [المغربَ] استقلالَه، ولكنّ [فرنسا] ليست لها هذه الأخلاق؛ ومن هؤلاء الجنود الذين أحسّوا بالضيم، والغبن، شاركوا في حرب الريف، إلى جانب (الأمير عبد الكريم الخطّابي)؛ والخطّابي لقِّبَ بـ(الأمير) ليس لكونه كان يريد خلْقَ إمارة في شمال المغرب كما يريد أن يُفْهِمنا المغرضون، والسفهاء، وأعداءُ الوطن، والملَكية؛ بل لقّبَ بـ(الأمير) لأنه في الأعراف الإسلامية، يُلقّب بهذا اللقب كلُّ بطل خاض حربًا مقدّسةً ضد المستعمر، والطامع، والغاصب لأرض الإسلام؛ وهو الجهاد الشرعي، لذا يجب شرحُ اللفظة داخل سياقها، ليتحدّد معناها، وإلاّ وقعنا في الخلط، وفي أشباه الألفاظ، التي لا تعني شيئا في منطق اللغة..
فمن سنة (1920) إلى سنة (1939) مرّتِ السنونُ بسرعة، وعرفتْ هذه المرة اغتيالات الزعماء، والرؤساء، والوزراء.. ففي (إيطاليا) اغتيلَ الزعيمُ الاشتراكي (ماطِيُوتي)، وفي (ألمانيا) اغتيلَ الزعيمان الشيوعيان (ليبْنَخت) و-روزا لوكسومبورغ-؛ ومن الوزراء، اغتيلَ الوزيرُ الألمانيُ -ماتياس إيزبيغِير-، وقد كان مكروهًا لأنه وقّعَ في (11 نونبر 1918) على استسلام -ألمانيا- ولأنه كوزير للمالية في (يونيو 1919)، أراد أن يدفع ديونَ -ألمانيا- للمنتصرين في الحرب الأولى..وفي (24 يونيو 1922) اغتيلَ وزيرُ خارجية [ألمانيا] لأنه وقّعَ مع [روسيا] على اتفاقية (رَبَّالو).. وفي (23 يناير 1923) قتلتِ الآنسةُ [جِرمين بِرتون] السيد [ماريوس بلاتو] في مكتبه بجريدة لاكسيون فرّونسي؛ ولـمّا سُئِلَتْ عن دوافع القتل، أجابت: [إني أعتبره أكبر مسؤول عن الحرب التي أراها عائدةًَ مرةً أخرى؛ لقد انتقمتُ للسيديْن (جوريس واَلْـميرَيْدَا) ولستُ نادمةً].. بدأت [فرنسا] تعيش زمانَ خوف، وعدم يقين، وصارتْ تؤدّي ثمنَ سياستها الخرقاء، وأدان الشيوعيون سياستَها في المغرب، وإرسالَ الماريشال [بيتان] لقمْعِ انتفاضة (الريف)، باعتباره بطل معركةٍ (ڤيرْدان)، ثم خائن الوطن سنة (1940)؛ وهكذا أرسل الرفيق [داريو] رسالةً إلى (عبد الكريم الخطابي) يهنِّئُه فيها، ويتمنّى له توفيقًا آخر في محاربة الإمبرياليين.. ولشدّة الرعب الذي اعترى [فرنسا] أنفق الوزيرُ [أندري ماجينو] ملايير الفرنكات لبناء (خط ماجينو) خوفًا من الألمان، ولكنّ هذا الخطّ، لم يَحْمِ [فرنسا] من الاحتلال النازي.. وفي (07 ماي 1932) اغتيلَ الرئيسُ الفرنسيُ [بول دومير]، ومن الطّرافة أنّ جسدَه اخترقتْه أكثرُ من عشر رصاصات، وقبْل وفاته سأل: [ما الذي حدث لي؟]؛ فأجابوه: [سيّدي الرئيس، لقد كنتم ضحيةَ حادثة سَيْر] ثم أغمض عينيْه إلى الأبد؛ فخلفَه [ألبير لوبران]..
في (27 يوليوز 1934) مات الماريشال [ليوطي] ولقّبتْه الصحافة: (ليوطي المغربي).. لأعطيكَ فكرةً عن الغباء الفرنسي والارتباك؛ فالزعيم الإيطالي [موسُّوليني] التقى بالزعيم النازي [هتلر] في مدينة (البندقية)، وكانا سمنًا على عسل خلال لقائهما في (16 يونيو 1934)؛ وهذه [فرنسا] الجبانة تسلّم [موسّوليني] أراضي عربية وإفريقية؛ وهكذا سلّمت [فرنسا] لجارتها [إيطاليا] التي يحكمها ديكتاتور، ما يزيد عن (مائة ألف كيلومتر مربع)؛ جزْء من صحراء (ليبيا)؛ وجزْء من (الصومال الفرنسية)؛ ثم (إيريتيريا)، مع منحها [إيطاليا] ورقةً بيضاء لتتصرّف كما يحلو لها في [إيثيوبيا] مقابل حماية [النامسا] من أطماع (ألمانيا النازية).. ويوم قرّر [هتلر] تنفيذ مشروع [لانشلوس] لضمِّ [النامسا]، ماذا فعلت [إيطاليا]؟ لا شيء! ويوم هاجمتْ [ألمانيا]، واكتسحتْ [فرنسا] سنة (1940)؛ هاجمها [موسّوليني] من جهة الشرق.. لقد سمّتْ [فرنسا] الحرب العالمية الأولى: [la guerre moderne]؛ أمّا الحرب العالمية الثانية، فسمّتْها [Drôle de guerre].. وسنة (1940)، كانت سنة تقسيم [فرنسا] بين حكومة [ڤيشّي]، والبقية لألمانيا النازية؛ وأُنشِئَتْ [فَرنْسَتان]: (فرنسا) النازية؛ و(فرنسا) الحُرة في المنفى: (تحيا فرنسا!)..