كمْ هي طيِّبة، وفاضلة، وكريمة هذه [اَلْفرنسا]! لقد وجدتْ شعبًا لم يبلغْ بعدُ سنَّ الرشد (الجزائر)، فأنعمتْ عليه بما يسمّى [الوصاية] أي [la régence] في القرن التاسع عشر.. ورأتْ شعبًا ضعيفًا (المغرب)، فجادت عليه بما أسمتْه: [الحماية] يعني: [le protectorat]؛ وهذا لطفٌ منها؛ ألا ترون!؟ سئِلَ [تولستوي] سنة (1910) قُبيْل وفاته: [لقد تطوّر العالمُ أليس كذلك؟ فأجاب: [على مستوى الألفاظ الخادعة، هناك تطوُّرٌ ملحوظٌ؛ ولكنْ في ميدان الخبز، والحرية، والكرامة، هناك تراجُعٌ؛ وكلمةُ الحقّ صارت كلمةً تقتل، وأصحاب الألفاظ الزائفة التي تروَّج بين الناس، وتساهم في التعمية، صاروا همُ المقرَّبون من أصحاب سياسة التضليل].. و[فرنسا] وعَلَمُها (tricolor) يرمز إلى: [الحرية، والمساواة، والإخاء]؛ فهل لمستَ شيئًا من هذا في سياستها؟ لقد قاتل الناسُ من أجل فرنسا، وهم مجرّد عبيد، لم تعترف لهم لا بحرّية، ولا بمساواة، ولا بإ
خاء؛ بل اعتبرتهم دون مستوى الإنسانية، تمشيا مع نزعتها العنصرية المتأصّلة، وطبقًا لجشعها الإمبريالي، حفاظا على إمبراطوريتها الاستعمارية، وهو ما زالت تسْتبطنه في (لا شعورها) وما تخلّصتْ منه أبدًا..
بعد أزمة [أکادير]، حيث أُنقِذ السلامُ بين [فرنسا] و[ألمانيا] بشقّ الأنفس، واضطُرّت [فرنسا] إلى تقديم تنازلات، واستفاقت في أعماقها النزعةُ العسكرية، وتمّ الحديثُ في [باريس] عمّا أسموه [La renaissance du militarisme] وبموجب ذلك، عزّزت [فرنسا] علاقاتِها مع [بريطانيا]، و[روسيا]؛ وفي جريدة، كانت تسمّى [Petit Journal]، كتبتْ على غلافها ما يلي: [شبابٌ وقدماء؛ حيُّوا أرضَ (الألزاس) القديمة]، وكانت ترمز بذلك لألمانيا.. كلّ ذلك سيبرز خلال حرب الفنادق الموحلة، أي خلال الحرب العالمية الأولى (1914 ــ 1918).. في (30 مارس 1912) يوقِّع السلطانُ [مولاي حفيظ] على وثيقة [الحماية] أمام أنظار الجنيرال [ليوطي]، وتكلّفَ هذا الجنيرالُ بتنفيذ بنود هذه (الحماية) وهي: الدّور الاقتصادي والديني للسلطان؛ المناطق الخاضعة لإسبانيا والحفاظ على وضع ميناء (طنجة)؛ [فرنسا] ستتكفّل بتدبير شؤون [المغرب] الخارجية وأمْنه الداخلي، بواسطة [المقيم العام] أي [commissaire résident général]؛ وهذه المهمة أُوكلت للجنيرال [ليوطي] لقمع انتفاضات القبائل، والتي كانت ضد التواجد الفرنسي بالمغرب، ولم تكن ضد السلطان، كما قيل في البداية؛ وهذا اعترافٌ صريح، شهدتْ به الصحافةُ الفرنسية (اُنظر: جريدة الفيغارو، لشهر مارس 1912؛ صفحة: الحياة في العالم)؛ وقد قلتُ إنّ كلَّ شيء حدث في البلاد من طرف [فرنسا] وعملائها، وما كان التمرّد ضد السلطان كما زعموا، وها هم يعترفون صراحةً بذلك؛ أوَليسَ الكذبُ هم صناعه، وأساتذته؟! لكنْ هل كان توقيعُ (عقد الحماية) عن اختيار وطواعية؟ يجيب التاريخُ: [كلاّ! فتوقيع صكوك الحماية يكون بالإكراه..] سألناه: [أهناك حالةٌ مشابهة؟]؛ كان جوابه: [نعم؛ حدث مثْل هذا سنة (1938) أيّام النازية؛ كيف ذلك؟].. وسترى سيدي القارئ الكريم، كيف يعيدُ التاريخُ أحداثَه..
في سنة (1938)، رفض الرئيسُ التشيكوسلوڤاكي، الرضوخَ لإملاءات النازية، وهو ما يسمّى بالألمانية: [Diktaten]؛ فقدّم الرئيسُ [بينيش] استقالتَه، ونفى نفسَه في [لندن]؛ فقام البرلمانُ بسرعة بتعيين رئيس جديد لدولة [تشيكوسلوڤاكيا] وهو محامٍ سابق، شيخٌ، ومريض.. فاستدعاه [هتلر] إلى [برلين]، وقُدِّمت له وثيقةٌ مكتوبة، يطلب فيها (حمايةَ) ألمانيا النازية؛ فرفض توقيعَها؛ كان هذا الرئيس التشيكوسلوڤاكي يُدْعى [إيميل أشَّا]؛ ومن الساعة 11 ليلا، و[هتلر] ينتظر توقيعَه؛ وكان الرجل مريضا جدّا؛ فكان ينهار كل مرة؛ فيطلب [هتلر] من طبيبه [موريل] أن يعالجَه، ويجعله يستيقظ كلّما فقدَ وعيَه: قال [هتلر]: [ليوقِّعْ أوّلا، وإن شاء أن يموت بعد ذلك، فهو حرّ].. في الساعة الخامسة صباحا، غَمزَ [گورينْغ] [هتلر]، وهو قائد [لوفت واف] أي سلاح الجو، ودخل على الرئيس [إميل أشّا] المتعنِّت قائلا له: [إذا لم توقِّعِ الآن، فقد أعطيتُ الأوامر لسلاح الجوّ، كي يسوِّيَ العاصمةَ [براغ] بالأرض، في الساعة السادسة صباحا، وعليكَ أن تختار].. أُصيب [أشّا] بالرعب، فوقّع وثيقةَ الحماية، وبعد عودته مات لتوِّه.. قام [هتلر] بتنصيب [هين لاين] رئيسًا على [تشيكيا]؛ و[فيليب تيزو] على [سلوفاكيا] كما قسّمتْ [فرنسا وإسبانيا] (المغرب) بينهما.. وفي شهر (أبريل 1912) اضطرّ السلطان (مولاي حفيظ) إلى تقديم استقالته بحضور [ليوطي] المقيم العام للمغرب؛ وهناك صورةٌ لهذا المشهد المثير في جريدة [الفيغارو] في صفحة [la vie dans le monde] لمن شاء أن يراها..