من أغرب المفارقات، هو أن الملكية في (إسبانيا) كانت مهدّدة في كل لحظة وحين، ومَلِكُها [ألفونس 13] نجا من محاولة اغتيال، هو والملكة [إينا]، وهما في القصر؛ ألقيتْ عليهما قنبلة فقُتِل تسعة أشخاص، فيما نجا الملكُ والملكةُ بأعجوبة في (يوليوز 1906)، وبدلاً من أن يدْعَم ملكُ (إسبانيا) المملكةَ في (المغرب)، وهو البلد الجار، وجدتَه يتآمر على (المغرب) مع (فرنسا)، ويهدّد وحْدتَه الترابية، وقد كان لبلده (إسبانيا) دورٌ لا يُنْكَر في تمزيق هذا البلد الجار، وقد رأيتَ منذ قرون (البرتغال) تسلّم (سبتة)، وهي مدينة مغربية لجارتها (إسبانيا)، وتمنح أرضًا ليستْ مِلْكًا للبرتغال؛ فحتى لو اقتطعتْ (إسبانيا) مدينةَ (سبتة) بالمنشار، وجرّتْها عبر البحر نحو (إسبانيا)، فسيسمّى ذلك الفعلُ سرقةً موصوفة لا محالة.. ورغم تعاوُن الملك (ألفونس 13) مع (فرنسا) على (المغرب) البلد الجار، والملكية الشقيقة، جغرافيا وتاريخيا، فستراه يتنازل عن العرش سنة (1930)، ويختار (بريطانيا) كبلد لمنفاه غيْر المأسوف عليه.. والملاِحِظ يرى أن الملكيةَ بادت في (إسبانيا) إلاّ أنها بقيتْ صامدةً في (المغرب) رغم كلّ الدسائس، والمؤامرات، والظروف الصعبة.. نعم؛ أُزيحَ ملكٌ، ونصّب آخر، ولكنّ الملكية بقيت في بلادنا، وتلك ألطافُ الله عزّ وجلّ بهذا البلد النبيل، وكل من يكره الملكيةَ أو يتمنّى زوالَها، فهو ليس منّا، لأنّ الملكيةَ ظلّت درعًا واقيا لوحدة المغاربة، وإلاّ ماذا كان سيكون مصيرنا بدون هذه الملكية الشريفة؟ سؤال!
في شهر (أبريل 1911) ادّعتْ (فرنسا) أنّ (المغرب) تمزّقه حروبٌ قبلية داخلية، وأنّ هناك قبائلَ متمرّدة، تحاصر قصر السلطان [مولاي حفيظ] الذي اعتبروه ضعيفًا بعدما وصفوه سابقا بالقوة؛ وقالوا إنّ (المغرب) غرق في الفوضوية ، ومتى كان المغاربة يعرفون هذا المذهب السياسي الذي يدعو إلى إلغاء كل أشكال السلطة في البلاد، وقد تربّوا على احترام شخص الملك، وطاعتِه لأنه أمير المؤمنين، وعصيانُه يعتبر إثمًا لا يغْتفر؟ فهذه أفكارٌ فرنسية، والفوضى خلْفها أيادٍ خفية لخلْق الفوضى الخلاّقة التي تحتاجها (فرنسا) لاستكمال مخطّطها.. (بنو هلال)؛ وهم (لحيَايْنَة)؛ هم قومٌ ذوو فضل، وفصْل، ونسب وتقاليد، ومناقب؛ فلم يُعْرفْ عنهم العصيان، أو الخيانة، أو كراهية الملك؛ هذا كذبٌ وافتراء من (فرنسا) أستاذة الكذب والنفاق.. ثم قالت (فرنسا) إنها لن تسمح بانهيار الملكية في (المغرب)، لو لم تدركْ تشبُّثَ المغاربة بالملكية، وأنّ (المغرب) لن يستقرّ بدون (ملك)، لأنه ليس (إسبانيا، أو البرتغال، أو صربيا)؛ لأنّ الملكيةَ مرتبطة بالدين، والقيم والتقاليد العريقة، ممّا يحتّم على (فرنسا) التعامل معها بدل الإطاحة بها؛ لأنّ للمغرب خصوصية تختلف عن بلدان أوربية أطيح بالملكيات فيها.. ادّعتْ (فرنسا) بأنّ السلطان طلب مساعدتَها العسكرية، فأرسلت إلى (المغرب) أربعة أفواج عسكرية تحت قيادة الجنيرال (Moinier)، فمشتْ هذه الكتائبُ عشرة أيام لتصل إلى مدينة (فاس)، ولم تجدْ أيةَ مقاومة في طريقها؛ فأين اختلفتِ القبائلُ المتمرّدة المزعومة؟ كل المؤرّخين يُجْمِعون على أنّ كل ذلك كان من صنيع (فرنسا) الإمبريالية، ولا يشكّون لحظةً في ذلك.
يذكر القارئُ الكريم، أني تساءلتُ حول حصّة (ألمانيا) من الكعكة الاستعمارية التي أغفلها المستعمرون القدامى، وحرموا منها الطّامعين للاستعمار.. وفجأة أتتْ ما سُمِّي (ضربة أگادير)، حيث ادّعتْ (ألمانيا) حمايةَ التجارة الحرّة في الشواطئ المغربية، فأرسلتْ في (01 يوليوز 1911) المدمّرة (Panther) إلى ميناء (أگادير)، وأدانتْ بشكل غير مباشر تدخُّل (فرنسا) عسكريًا في مدينة (فاس)؛ وبوصول هذه المدمّرة إلى (أگادير)، يكون القيصر (غيّوم الثاني) قد أقام رأسَ جسْر جيّد في حالة لو أراد إرغام (فرنسا) على دفع بعض الأراضي المغربية كتعويض لـ(ألمانيا)؛ و(فرنسا) تعرف أنّ لها أراضي حدودية مع (ألمانيا) من بينها (les vosges)، فحسب الاتفاقية الموقّعة بين (فرنسا وألمانيا) في (04 نونبر 1911)، ثم الاتفاق على حماية (فرنسا) في (المغرب)، والتنازل لـ(ألمانيا) في أراضٍ كونغولية، مقابل تخلّيها عن أية أطماع استعمارية في شمال إفريقيا.. و(ضربة أگادير) اعتبرتْها (فرنسا) بمثابة (une intimidation inquiétante)؛ هكذا قالت صحافتُها العميلة، وبهذه [الضربة] تكون أول مواجهة بين [فرنسا وألمانيا] في القرن (20) قد حدثت على أرض (المغرب)، قبل أن تتواصل على أرض أوربّية خلال الحرب العالمية الأولى.. لهذه الأسباب، رأيتَني أذكّر بأحداث عالمية كبرى، لأن (المغرب) كان في (قلب) هذه الأحداث، وكان في قلب الصراعات العالمية، ولم يكنْ بمنأى عن أية أحداث عالمية.. وغدًا، سوف نتحدث عن سنة (1912)، وهي سنة الحماية سيّئة الذكر، إلى اللقاء!
صاحب المقال : فارس محمد