رعت فرنسا الربيع العربي. كانت عاملا مهما في الهدم. الربيع تحول إلى حشائش تحترق اليوم في قلب باريس. لم تنطفئ رغم الجو الماطر. ومنذ اليوم الأول للأحداث في العالم العربي واجهت التحليل ب"التمني" وأخيرا التحليل ب"التشفي". لهذا لن أتشفى فيما يقع بعاصمة الأنوار، أو عاصمة الحرائق الأوروبية حاليا، ولن أتمنى لها سوءا لأنه بالنتيجة هناك إنسان تهلكه الحرب. وغرضي محاولة للفهم لا أقل ولا أكثر، وتأكيد الأدوار التي يلعبها المثقف المزيف والإعلام كأداة لتزييف الحقائق من جهة والسيطرة على الرأي العام بل على العقل العام، من جهة أخرى.
فرنسا تماهت مع الأمريكي في مواقفه حتى استاء الفرنسيون من هذا الوضع. وساهمت في خلق التوترات في مجموعة من المناطق بل كانت الأداة المباشرة للفوضى في ليبيا. من كانوا في ليبيا وسوريا والعراق يحملون السلاح كانت تسميهم "ثوارا" و"مناضلين"، وما زالت لحد الآن تصفهم بالمعارضة اللازم الحوار معها، ولم لا منحها الحكم دون عناء ودون انتخابات. لكن عندما هبت الريح على باريس انقلب كل شيء.
وزير الداخلية كريستوف كاستانير يعبر عن عدم ممانعته في الاستجابة لنقابة الشرطة وفرض حالة الطوارئ. وقال في تصريحات نقلتها الصحافة "ندرس كل الإجراءات التي ستسمح لنا بفرض مزيد من الإجراءات لضمان الأمن".
كان الوزير واضحا "كل ما يسمح بتعزيز ضمان الأمن. لا محرمات لدي وأنا مستعد للنظر في كل شيء". وشدد على أن "كل وسائل الشرطة والدرك والأمن المدني تم حشدها". يعني السلطة الفرنسية لن ترحم. وفعلا استعملت كل الأدوات لقمع المحتجين.
عندما يتحرك المحتجون أو حتى الإرهابيون في بلد آخر ترتفع أصوات "باريس" داعية إلى احترام حقوق الإنسان. تبين للفرنسي اليوم أن دولته باعته الوهم.
نقابة الشرطة طالبت بأن "تتحلى الحكومة بالشجاعة لاتخاذ الإجراءات التي يسمح بها القانون والدستور وتصل إلى حد فرض حالة الطوارئ".
والنغمة نفسها عزفت عليها وسائل الإعلام الفرنسية. يهمني منها هنا وكالة الأنباء الفرنسية. وكالة تتبعت كل شاذة وفادة في الضفة الأخرى. كل الإرهابيين وصفتهم بالمعارضة. كل أعمال القتل والدمار ألصقتها بالجيوش النظامية.
تقول الوكالة في قصاصة لها يوم السبت الفاتح من دجنبر الجاري "اندلعت مواجهات السبت بين مئات "المخربين" وقوات الأمن الفرنسية في قلب باريس التي شهدت إحراق سيارات وتكسير واجهات زجاجية وإقامة متاريس، وذلك على هامش تظاهرة جديدة لحركة "السترات الصفراء" التي تحتج على زيادة الضرائب وتراجع القدرة الشرائية. وتحاول الحكومة بدون جدوى حتى الآن التحدث مع ممثلين لحركة "السترات الصفراء" التي سميت كذلك لارتداء المحتجين سترات مضيئة يتوجب على كل سائق سيارة ارتداؤها إذا تعرض لحادث".
أصحاب السترات الصفراء مخربون بتقدير الإعلام، الذي وصف الإرهابيين بالمعارضة. هذا هو الإعلام الذي يوصف منذ مدة بأنه أداة في الحرب الدائرة في بعض المناطق، وأنه شريك أساسي في سفح كل هاته الدماء. لا يهم في هذا المقام تحديد من تسبب في هذه الأحداث مباشرة، ولكن لابد من التركيز على أن الإعلام يلعب أدوارا خطيرة في التزييف.
ما جرى يسائل المؤرخين عن جملة من المعلومات الزائفة التي تم الترويج لها بشكل كبير، وتتعلق بخصوم الغرب. هل سنصدق اليوم كل ما تمت كتابته عن المعسكر الشرقي، الذي كان متخلفا فيما يتعلق بالدعاية الإعلامية، بينما كان المعسكر الآخر يمتلك أدوات إعلامية خطيرة؟
يحكي تشومسكي في كتابه "السيطرة على الإعلام" عن أمريكا سنة 1916 أثناء إدارة الرئيس ويلسون. كان الناس مسالمين لا يريدون حربا. بينما إدارة الرئيس كانت لديها التزامات تجاه الحرب، وبالتالي كان لزاما عليها فعل شيء في هذا الأمر. فقامت بإنشاء لجنة للدعاية الحكومية أطلق عليها لجنة كريل، وقد نجحت هذه اللجنة خلال ستة أشهر في تحويل المواطنين المسالمين إلى مواطنين تتملكهم الهستريا والتعطش للحرب، والرغبة في تدمير كل ما هو ألماني، وخوض حرب، وإنقاذ العالم.
قد يزعم البعض أن الاحتجاجات هنا تختلف عن الاحتجاجات هناك. في باريس دولة ديمقراطية بينما في باقي البلدان ليس الأمر كذلك. الناس لا تحتج من أجل الديمقراطية، فهذا احتجاج النخب. الناس تحتج من أجل الخبز.
ماكرون وعد بخطة استثمارية، تم الترويج لها كثيرا. لكن في التنفيذ تبين أنها خطة ليبرالية متوحشة. ووعد أيضًا بإلغاء 120 ألف وظيفة في القطاع العام لمدة 5 سنوات من خلال قانون التقاعد المبكر، ووضع خطة لخفض معدلات البطالة، وتعهد بإعفاء 80% من الأسر محدودة الدخل والمتوسطة من ضريبة السكن باعتبارها غير عادلة. لكن من جاء به كان له رأي مخالف.
لقد عجز الاقتصاد الفرنسي، الذي يبلغ حجمه نحو 2.8 ترليون دولار، ويمثل نسبة 15% من اقتصادات منطقة اليورو المقدر حجمها بنحو 17 ترليون دولار، عن السير بنفس السرعة التي يسير بها الاقتصاد الألماني في التقدم، فمنذ 15 عامًا كانت الدولتان الكبيرتان في الاتحاد الأوروبي تتمتعان بمستوى معيشي لا يضاهى، أما اليوم فمستوى المعيشة في ألمانيا أكبر من نظيره الفرنسي بخمس مرات.
كانت معدلات البطالة في فرنسا وألمانيا، عند بدء التعامل بالعملة الأوربية الموحدة، 8%، أما اليوم فقد انخفض معدل البطالة في ألمانيا ليصبح 4%، بينما ارتفع في فرنسا ليقترب من 10%، فمن بين كل 4 شباب فرنسيين تحت سن الـ25 عامًا، هناك شخص عاطل عن العمل.
وتميز الاقتصاد الفرنسي بسياسات اجتماعية ومارس نوعا من الممانعة تجاه العولمة وسياسات الرأسمالية في الوقت الذي تبنتها دول العالم، وجيء بماكرون لضرب هذا التوجه. فخطة ماكرون التي اتجهت لملاءمة الاقتصاد الفرنسي مع نظرائه تسببت في الضغط الاجتماعي.
الخارجون اليوم للاحتجاج لا يهمهم انتخابات برلمانية ولا وجود أحزاب وديمقراطية، ولكن يهمهم ما يأكلون. لقد عاشت فرنسا على الوفرة واليوم تدخل عصر اقتصاد الندرة. لقد ظلت تحتكر خيرات إفريقيا، التي أصبحت اليوم مزدحمة بالقوى العالمية والإقليمية. ودخول فرنسا معركة الربيع العربي كان من أجل ضمان موقع قدم لاقتسام الخيرات. لكن فشل المشروع برمته فعادت فرنسا تتحسس "جيبها" الفارغ. لم يعد لدى أصحاب المصالح الكبرى ما يقدمونه لمن لا مصلحة لهم. وبالتالي لم يعد مهما لدى المواطن الفرنسي الحديث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان.
يبدو أن الفرنسي اليوم يسعى للخروج من العبودية. قد يستشكل علينا البعض بالانتخابات الحرة والنزيهة. فهل هذا يفيد مواطنا أصبح رهينة لدى المؤسسات الرأسمالية؟
لقد مر مفهوم دكتاتورية الخبراء سريعا وسط زحمة مفهومين مركزيين. دكتاتورية البروليتارية والديمقراطية الليبرالية. غير أننا اليوم قد نقف على مفاهيم جديدة بعد شيخوخة الديمقراطية، التي لا تقل عن الدكتاتوريات في السيطرة. إذا كانت الأولى تسيطر بالقوة والسلاح فإن الثانية تسيطر بالهيمنة على صناعة القرار وإخضاع المواطن له تحت عناوين شتى. يصل إلى مواقع اتخاذ القرار المدافعون عن جماعات المصالح. يتحول المواطن في هذه اللعبة إلى عبد يتم استغلال صوته. قديما قال ماركس "تم خلق البرلمان للتهريج..أما القرارات فتصاغ في مكاتب الشركات".
يخرج الناس من أجل مطالب صغيرة، لكن الأحداث قد تفجر أسئلة ضخمة. أحيانا لا تتوفر القدرة على مصاحبة التطورات بالأفكار فتنتج عنها كمية كبيرة من التسطيح، تقتل القديم ولا تلد إلا كائنا مشوها. يبدو أن الديمقراطية ماتت بما هي معنى قديم ويولد اليوم شيء جديد قد يكون له معنى أو قد لا يكون.