عشنا منذ أيام ذكرى (18 نونبر 1956) وهي ذكرى عيد الاستقلال المجيد الذي ضحّى من أجله المغاربةُ الأحرار، والسياسيون الأبرار؛ هؤلاء بأرواحهم استرخصوها في سبيل انعتاق البلاد، وتحرّر المغاربة من الاستعمار والاستعباد؛ وهؤلاء بعقولهم ودبلوماسيتهم، رغْم النفي، والسجون، والإقامات الجبرية التي كان ينهجها المستعمر الغاشم؛ الاستقلال لم يُقدَّمْ لنا كصدقة أو كهدية على طبق من ذهب، فما هكذا هي طبيعة الاستعمار على امتداد التاريخ الطويل.. لقد نال المغربُ استقلالَه كنتيجة حتمية لتضحيات جسام بالأرواح، وبالدماء، وبالغالي والنفيس، ومن يحاول أن يُفْهمَ الأجيال عكْس ذلك، إنما هو كذّاب وشاهدُ زور، ليس إلاّ.. وعند كل ذكرى تتفتّق الذكرياتُ عن أمور لا تُنْسى، وأخرى تنبثق من الذاكرة، تصرُخ، وتريد أن تعبّر عن نفسها بعدما سُجِنَت في عنكبوت الذاكرة، حتى كُتِب لها أن تبرز وتلقي الضوءَ على جانب مظلم لم تسلّط عليه أضواءُ التاريخ، وهو مجال الذاكرة بامتياز.. وفي هذه المقالات البَحْثية، سنقوم بسبر أغوار الذاكرة تماما كما تُسْبَر مجاهل (اللاّ شعور) في النفس البشرية، فنكتشف أشياء مذهلة، خبّأها عنّا (اللاّ شعور) حتى أماط البحثُ عنها اللّثام وصارت أشياء مفهومة، وللناس معلومة، رغم تاريخٍ كَذِبَه علينا المستعمرُ لعلْمه المسبق بأننا لا نلتفت إلى تاريخنا وإنّما نعتبر ذكْراه مجالا للخطب الرنانة، ولمهرجانات فولكلورية، ولا نطرح أسئلةً على التاريخ، ونسأل ذاكرتَه حول حقائق الأحداث؛ وبلدٌ بتاريخ صاغه له المستعمر، لا يعتبر مستقلاّ، إلاّ إذا قام بتحرير تاريخه من أغلال هذا الاستعمار، وطرْد ترّهاته من الذاكرة الجماعية الوطنية؛ هكذا يقول فلاسفةُ التاريخ، ولكنْ ما هي الذاكرة يا ترى؟
الذاكرةُ هي القدرة على إحياء حالةٍ شعورية مضتْ وانقضتْ مع العلم والتحقّق أنها جزء من حياتنا الماضية، وقد سمّاها الأقدمون (حافظة).. ووظيفةُ الذاكرة بهذا المعنى، هي الحفظ والتذكر؛ ويُطْلَق الذِّكر على إحضار الشيء في الذهن، بحيث لا يغيب عنه وهو ضدّ النسيان.. ويُطلق لفظُ الذاكرة على القوة التي تدرك بقاءَ ماضي الكائن الحيّ في حاضره.. يقول [ريبو]: [الذاكرة وظيفةٌ عامّة للجهاز العصبي تنشأ عن اتصاف العناصر الحية بخاصّة الاحتفاظ بالتبدّلات التي تطرأ على ربْط هذه التبدلات بعضها ببعض. ويُطْلق هذا اللفظ على الذاكرة النفسية، وهي أرقى صور التذكر، وأكثرها تعقيدًا، كما يُطلَق في بعض الأحيان على بعض ظواهر الأجسام]؛ ونحن نعلم أنّ مرض فقدان الذاكرة، هو موتٌ مع وقف التنفيذ؛ هذا بالنسبة لشخص، فما بالُكَ بأمّة بأسرها.. لقد فرّق الفيلسوفُ الفرنسي [هانري برغسون: 1859 ــ 1941] بيْن ذاكرتين: الأولى عادة تحتفظ بآثار الماضي على صورة حركات مخزونة في الجسد؛ والثانية نفسية خالصة تحفظ ذكريات الماضي دفعةً واحدةً بصورة مستقلّة عن الدماغ، فتُسمّى الأولى بالذاكرة الحركية؛ وتسمّى الثانية بالذاكرة النفسية؛ وتتألف من التثبيت (Fixation)؛ والحفظ (Conservation)؛ والذِّكر (Rappel)؛ والعرفان (Reconnaissance)، والتحديد (Localisation)..]..
وهناك (الذاكرة الانفعالية): (mémoire affective)، وهي القدرة على تذكُّر الأحوال الانفعالية السابقة، كقدرة الإنسان على إحياء خوف قديم اعتراه في بعض ظروف حياته، وقد تُطْلَق الذاكرةُ الانفعالية أيضا على ذكرى الحوادث الماضية من جهة ما هي مصحوبة بجملة من الأحوال كما يحدث في تاريخ الشعوب والأمم من حوادث أدّت إلى كوارث يخاف المواطنون تكرارها في تاريخ بلدهم؛ لكنْ من العلماء من يُنْكِر هذه الذاكرة الانفعالية فيقولون: [إنّ الأحوال الانفعالية التي (نتوهّم) تَذَكّرها، ليست سوى انفعالاتٍ جديدة أثارها رجوعُ الصور الماضية إلى الذهن]؛ ونحن نسألهم: [وما الذي أثار رجوعَ هذه الصور الماضية إلى الذهن أيها السادة العلماء؟ فالحالات الواحدة لا تمر بالإنسان مرتين؛ هكذا يجيبكم الفلاسفةُ، وعلماءُ النفس!]..
فالذي يهمنا في هذه المقالة، هو علاقةُ الذاكرة بالتاريخ، والمقصود هنا بالذاكرة هو ذاكرة الشعوب لا ذاكرة الفرد.. والتاريخ عند الفيلسوف [فرانسيس بيكون: 1561 ــ 1626] هو العلم بالأمور الجزئية، لا بالأمور العامة، والقوة النفسية اللاّزمة له هي الذاكرة، وهو ضدّ الشعْر، لأنّ موضوع الشِّعر وهمي؛ وموضوع التاريخ واقعي، وفكرة [بيكون] هذه مردود عليها إذ ليس كلّ شِعْر موضوعُه وهمي، بدليل الشِّعر الملتزم بقضايا الإنسان، وهموم الشعوب، وقسْ على ذلك.. وينقسم التاريخُ في نظر [بيكون] إلى التاريخ الطبيعي الذي يبحث في تاريخ الأرض؛ وتاريخ المستحاثات ويبحث في تاريخ الأنواع الحية المفقودة؛ وتاريخ الإنسان، ويبحث في تاريخ أحوال البشر ووقائعهم، وحروبهم، وقسْ على ذلك؛ إلاّ أنّ بعض المؤرّخين يقتصر فقط على ذكْر الأخبار والوقائع من دون أن يذْكر أسبابها وهم بذلك يقعون في تقصير واضح؛ لكنّ بعضهم الآخر يأبى الاقتصار على التعريف بالحوادث الماضية؛ فيمحّص الأخبارَ، ويعلّل الوقائعَ، ويستبدل بالتسلسل الزّماني ترتيبًا سببيًا يُرْجِع فيه مثلاً الحوادثَ أو استعمار بعض البلدان إلى أسبابه، والوقائع التي سبقته، ومهّدتْ إليه، فيستخرج من ذكْر تلك الأحوال، ما يكون عبرةً تتم بها الفائدة لمن يروم نوعيةَ الشعب، وتربيةَ النَّشء.. ذلك هدفُنا..