لا يمكن أن يقبل أيٌّ كان رؤيةَ المغرب، في الوقت الراهن، بوُجوهه المتعددة، وهو الذي قطع مع الاستعمار، على الأقل، قبل أكثر من ستة عقود، وما أقل الطيّب الجميل من هذه الوجوه، وما أكثر قبيحها المرتبط بالتخلف والتناقض.
مخبول إذن، من يقبل أن يرى المغرب اليوم بلدا للخط فائق السرعة (البُراق) وبمحطات سككية "رقمية" وبمطارات دولية من آخر طراز، وبلدا بقمرين اصطناعيين، رائدا في إنتاج الطاقات المتجددة، الشمسية منها والريحية، ورائدا في إنتاج الفوسفاط ومشتقاته وأيضا في الصناعات العالمية الخاصة بالسيارات والطائرات، وموانئ كبيرة قاريا وإقليميا (الدار البيضاء والجرف الأصفر وطنجة المتوسط)، وفي الوقت نفسه، يراه بلدا لم يقطع البتة مع الأمية والفقر والأمراض وتدني جودة مستوى التعليم والصحة، بمعنى عدم قطعه مع الخصاص المهول الحاصل في المستوصفات والمستشفيات والأطر الطبية وفي المدارس والجامعات وضعف المناهج التربوية والتعليمية، بل عدم قطعه مع الهشاشة بشكل عام، ليتأكد له أن مقولة "ما دُمت في المغرب فلا تستغرب" التي أطلقها الأجداد على تناقضات المملكة الشريفة، بين مغرب فقير عُنوة ومغرب غني على حساب الفقراء، لم يطلقوها على العواهن، وإنما لأسبابها ودواعيها المختلفة.
لا يقبل عاقل بهذا التناقض الصارخ مادام في شمال المغرب كما في جنوبه، أو غربه وشرقه، في قُراه كما في بعض ما يُعتبر مدنا من مدنه الصغيرة، حيث المناطق النائية التي يحلو للكثيرين أن يطلقوا عليها "المغرب العميق" أو "المغرب السّحيق"، يوجد الآلاف من المواطنين يعانون فيها، في صمت، للحصول على لقمة عيش كريمة ومستدامة وجرعة ماء شروب وعلبة دواء وجَوْخ غطاء أو لباس، يقيهم شر القرّ والصقيع عند اشتدادهما، خريفا وشتاء، وحر القيض عند ذروته صيفا. لا يقبل أن يظل محور القنيطرة البيضاء-الجديدة، وبالكاد مراكش السياحية، وطنجة "الدولية" التي التحقت به مؤخرا بمشاريعها، هو المحور الذي تتمركز فيه معالم الإدارة والعمارة والنشاط التجاري، وتدور فيه عجلة الاقتصاد الوطني على قدم وساق، بل هو وحده المحور الذي يسلم من هذا الخصاص، بعدما أضحت لازمة المغرب النافع هي سمته التي لا تفارقه منذ الاستعمار، وقد يسلم فيه نسبيا المواطنون من شر الهشاشة ومن حر انعدام كل أنواع الإدماج، هو المحور القادر على خلق القدر الكافي من إجمالي الناتج الوطني الخام، أي الثروة الوطنية، والباقي يعيش على الخصاص في كل شيء ويدخل في باب المغرب غير النافع الذي لا يُنظر إليه إلا بعين الاستغلال بكل أنواعه.
فالمغرب بتعدد ثقافاته ومكوناته ما بين عرب وأمازيغ وعجم، في الريف أو الشاوية أو الصحراء أو الأطلس أو سوس أو الحوز أو دكالة أو عبدة أو الشياضمة أو الرحامنة أو الواحات، هو المغرب نفسه، الموحِّد في شريعته السماوية، كما هو أيضا المتوحد على ثوابته ورموزه الوطنية، لا يزحزحه عنها قيد أنملة، لكن ليس هو المغرب الذي يتمنى المواطنون أن يجدوا فيه أنفسَهم سواسية أمام القانون أو أمام دفع الضرائب، وأن يتوفروا فيه على فرصة شغل، وعلى حق في التعليم وحق في الصحة أو حق في السكن، بمعنى ما الفائدة من البنى التحتية الكبيرة والعملاقة في غياب عدالة حقيقية يضمنها استقلال حقيقي للقضاء وعدالة ضريبية لا تهرُّب ضريبي فيها للأقوياء، وفي غياب منظومتين صحية وتعليمية شاملتين بجودة نفعية عالية، وما الفائدة من هذه البنى العملاقة أمام ارتفاع الأسعار وتدني الأجور وارتفاع المديونية بأرقام قياسية على المغرب، مصدَرُها كل المانحين الدوليين (النقد الدولي، البنك الأوروبي، البنك الإفريقي…)، مديونية يؤديها في الأول والأخير المغاربة الفقراء الموجودون في الجبل كما في السفح، من دون أن يساهم فيها أصحاب الأريحية، أصحاب المداخيل والعائدات الضخمة ولو بالنزر القليل بل بـ"لا شيء"..