نشأتِ الفتنةُ بعْد مقتل الخليفة [عثمان بن عفّان]، واختلف المسلمون في الخلافة، وادّعاها غيْر واحد، فانصرفتْ عنايةُ كل حزب من أحزابهم إلى استنباط الأدلّة، واستخراج الأحاديث المؤيّدة لدعواهم، فكان بعضهم إذا أعوزهم حديثٌ يؤيّدون به قولاً أو يقيمون به حجّة، اخْتلقوا حديثًا من عند أنفسهم.. وتكاثَر ذلك في أثناء الفوضى، فكان (المهلّب بن أبي صُفْرة) مثلا، يضع الأحاديثَ ليشدّ بها أمْر المسلمين، ويُضعِف بها أمْر الخوارج، وهو مع ذلك معدودٌ من الأتقياء والنبلاء، مع علمهم بما كان يضعه من الأحاديث، لأنهم كانوا يعدّون ذلك خدعةً في الحرب، وأمثال (المهلَّب) كثيرون، كانوا يضعون الحديثَ لأغراض مختلفة.. وتسابقَ الناسُ خصوصًا إلى وضع الأحاديث في أثناء البحث في شروط الخلافة، نظرا لما رأوه من تأثير الحديث فيها من أوّل عهْدها؛ إذ مات النبيُّ الكريمُ، وانقسم أصحابُه في طلب الخلافة إلى قسمين: المهاجرين والأنصار، وكلّ منهما يعتقد الأحقّيةَ في الخلافة لحزبه، واشتدّ عزمُ الأنصار على الثبات في المطالبة، وعظُمتِ الفوضى حتى روى [أبو بكر] الحديث: [الأئمّة من قريش]؛ فكان ذلك فصْل الخطاب.. فقسْ على ذلك حاجة أصحاب الفرق، والأحزاب، وغيرهم إلى الأحاديث، ناهيك عن حاجتهم إليها في إثبات الأحكام الشرعية الخاصة بالبلاد المفتوحة، وأهْلها، وغير ذلك كأوصاف (المهدي المنتظر) وشروط ظهوره، ووضْع الأحكام والقوانين، وفي كل باب من أبواب الإدارة والقضاء.. ولـمّا أراد مثلا (المأمون) تحليل (زواج المتعة) لم يُرجِعْه عن عزمه إلاّ حديثٌ رووْه له في تحريمه: اُنظر كتاب (ابن خلّكان) [وفيات الأعيان]؛ صفحة: (216)؛ جزء: (02)..
فلا غرْو بعْد ذلك إذا رغب أهلُ المطامع في اختلاق الأحاديث، فبرزت ظاهرةُ (الوضّاعين)، وفشتْ آفة (الإخباريين) الكذَبة، واشتعلتْ (حربُ الأحاديث)، وقد ذكروا من واضعي الحديث جماعةً أشهرهم أربعة، وهم: [ابن أبي يحيى] في المدينة؛ و[الواقدي] في بغداد؛ و[مُقاتِل بن سليمان] في خُراسان؛ و[محمد بن سعيد] في الشام.. فكثيرًا ما كان أولئك (الوضَّاعُ) يعترفون عند مسيس الحاجة بما اقترفوه، كما فعل مثلا [ابن أبي العوجاء] وكان محدّثًا في (الكوفة)، فأمر أميرُها [محمد بن سليمان] بقتله سنة (153)هـ، فلما أيقن أنه مقتول لا محالة، قال: [والله لقد وضعتُ أربعة آلاف حديث، حلّلْتُ بها الحرامَ، وحرّمتُ الحلالَ.. والله لقد فطّرتُكم يوم صومكم، وصوَّمتُكم يوم فطركم.] اُنظر كتاب: [الكامِل] لـ[ابن الأثير]؛ صفحة (03) مجلّد (06).. ومنهم كذلك [أحمد الجوبْياري، وابن عكاشة الكرماني، وابن تميم الفرْيابي]؛ فقد ذكر [سهلُ بن السّري] أنهم وضعوا من عند أنفسِهم نحو عشرة آلاف حديث؛ ولنحو هذا السبب، نشأتِ الفروق بيْن أحاديث السُّنة والشيعة..
فلـمّا هدأتِ الفتنةُ، وعمد المسلمون إلى التحقيق، كانت تلك الموضوعات قد تكاثرتْ، فاشتغلوا في التفريق بيْنها وبيْن الصحيح، فألّفوا كتبًا كثيرة في الحديث، وميّزوا صحيحَه من فاسدِه، وجعَلوه مراتب، ولهم في ذلك ألفاظٌ اصطلحوا عليها لهذه المراتب كقولهم: [المعلّق ــ المرسَل ــ المنقطِع ــ الـمُعضِل ــ المدلّس ــ المرسل الخفِي ــ الموضوع ــ المتروك ــ المنكَر ــ الـمُعل ــ المدرج ــ المقلوب ــ المضطرب ــ المصحف ــ الشاذ] وقِسْ على ذلك.. وضعفُ الحديث عندهم، يعود إلى واحد من أمرين: إمّا لفقْدِ شرط اتّصال السّند؛ وإمّا لطعْن في الرّاوي.. ومعلوم أنه ترتّب على أهمّية الحديث في الدّين والدُّنيا تعرُّضُه للوضع والتحريف، فاحتاج إلى العناية في تحقيقه، لكنّ ذلك لم يكن ميسورًا في العصور الأولى إلاّ بالحفظ، والرجوع بالمحفوظ إلى المصدر الأصلي الذي أخذ عنه بالتسلسل، وهو (الإسناد)، كأن يُقال: [حدَّثنا فلان، أو أخْبرنا فلان، أو أمْلى عليَّ فلان ما هو كذا وكذا].. فلـمّا بعُدتِ الرّوايةُ، جعلوها متسلسلةً فقالوا: [حدّثنا فلان عن فلان أنّه سمع فلانا يقول كذا وكذا.].. وترتّب على تصحيح ذلك، وضبْطِه في طبقات المحدّثين للتّفريق بيْن الثّقات وغيْرهم، فجعلوه طبقات: ومنهم الصحابةُ، فالتابعون، فتابعوُ التابعين، فالعلماء البالغون إلى رتبة الاجتهاد، فالمشتغِلون في جمْع الأحاديث، فالنّاقدون للأحاديث، فالشّارحون وغيْرهم؛ وكان أهل الأمصار يختلفون في الإسناد.
ولـمّا بلغتِ الأحاديث أعدادًا فاحشة، وأصبحت تُعدُّ بمئات الألوف، فقد ذكروا أنّ [أحمد بن حنْبل] روى لوحده مليون حديث؛ وأنّ [يحيى بن معين] قال: [كتبتُ: 600.000 حديث]؛ وأنّ صاحب (المسند الصّحيح) يعني [الإمام مسلم]، استخرجه من (300.000) حديث مسموعة، وأن [الإمام البخاري] قال: [صنّفتُ كتابي (الصحيح) من (600.000) حديث] وقِسْ على ذلك مما يدلّ على كثرةٍ فاحشة.. أمّا الذي صحّ منها، فإنه أقلّ بكثير، وبعضهم بالغَ في الإقلال، وهم أصحاب الرّأي، وشيْخهم [أبو حنيفة] حيث لم يَصِحّ عنده إلاّ [17] حديثًا لا غيْر؛ و[مالِك] صحّ عنده (300) حديث فقط؛ و[البخاري] اشتمل صحيحُه على (9200) حديث منها (3000) مكرّرة؛ و[أحمد بن حنبل] في مسنده (50.000) حديث.. وقد بلغ عددُ الأحاديث المعلّقة في (صحيح البخاري) [1341] حديثًا كما جاء في كتاب [التّوفيق] لـ(ابن حَجَر)..