فرنسا عادت 50 سنة إلى الوراء لتتذكر الثورة الثقافية، المعروفة بماي 68، وإن كان الفارق كبيرا بين الأسلوبين، وما زال الاتجاه العام غير واضح عما ستسفر عنه ثورة "السترات الصفراء". وسبق للمفكر المصري سمير أمين أن كتب مقالا تحت عنوان "الرأسمالية شاخت والحركات الاجتماعية قد تأتي بتقدميين أو فاشيين". وبالتالي توقعات ما سيتولد عن هذه الحركات سابق لأوانه.
لكن حركة السترات الصفراء كشفت عن خبايا كثيرة. يكفي أن نلاحظ اختفاء برنار هنري ليفي، عراب الربيع العربي وسمساره الكبير، الذي كان يلتقي بـ"الثوار" في سوريا وليبيا ويحرض على العنف والقتل، ويرسم مسارات نقل السلاح من مكان لآخر، لكنه اليوم اختفى عن الأنظار ولم نسمع له كلاما.
ما يحدث اليوم في فرنسا يؤكد ما قلناه منذ اندلاع ما يسمى الربيع العربي، حيث كتبنا في أكثر من مناسبة أن الربيع العربي خدعة وصناعة غربية لتحقيق أهداف في الجغرافية السياسية، دون أن ننفي وجود مطالب مشروعة للشعوب، لكن كانت أمريكا وأوروبا مع هذه الثورات بالمال والسلاح والموارد البشرية والتوجيه والتكوين والتدريب، أما اليوم فلا وسيلة إعلام غربية تهتم بما يجري بل تمارس تواطؤا مكشوفا ضد "السترات الصفراء".
شيء واحد مشترك بين السترات الصفراء والحراك الشعبي في العالم العربي هو غياب الأحزاب والنقابات والجمعيات، ومن يخرج للشارع حركات عفوية، وهي الحركات التي يسهل توظيفها في الاتجاه الذي يسعى إليه أصحاب المصالح، وحيث إن الغرب تمكن من توجيه بوصلة الحراك في العالم العربي تحول إلى إرهاب، وساند الغرب جبهة النصرة وداعش تحت مسميات "الثورة". ولما انكشف الأمر أعطى الأوامر لمجموعات للخروج من جبة التنظيمين وسماها "المعارضة المعتدلة"، ولأول مرة في تاريخ الدنيا نسمع عن معارضة مسلحة معتدلة.
ليس هناك من يجرؤ على توظيف حركة الاحتجاجات في فرنسا، لكنها فضحت نفاق الغرب، الذي يتعامل مع دول الضفة الأخرى على أنها تلميذ في مدرسة الديمقراطية ينبغي تعليمه، بينما تتعامل اليوم السلطات الفرنسية مع حركة احتجاج بعنف دفعها بدورها لتتحول إلى حركة عنيفة تخرب الشوارع والممتلكات العامة.
فرنسا من خلال إعلامها تتهمنا دائما، لكن هذا المغرب شوكة في حلق الكثير. يعرف المغرب حوالي 13 ألف شكل احتجاجي في السنة، ومن النادر أن يكون هناك تجاوز للقانون. وحراك دام ثمانية أشهر اختبرت فيها جهات عديدة صبر المغرب. لكن مر ذلك في ضبط للنفس صارم، ولم يتم التدخل لاعتقال بعض الأشخاص إلا بعد أن تم تحويل الحراك إلى تدمير وتخريب ومهاجمة لعناصر الأمن.
في فرنسا اليوم حركات احتجاجية كبيرة، بدأت تنتقل إلى عواصم أوروبية أخرى، وما على أوروبا اليوم سوى أن تعلم العالم درسا في الديمقراطية وتترك هؤلاء يفعلون ما يشاؤون كما طالبت العرب بذلك. هؤلاء لا يحملون سلاحا كما حملوه عند العرب.