هو أكثر الفرنسيين شعبيةً واحترامًا، وصل التقديرُ الذي حظي به مستوًى لم يبلغْهُ أحدٌ لا قبْله ولا بعْده على الإطلاق؛ فمن هو يا ترى هذا الرجل العظيم؟ هو [هانري غرويس]، وهذا هو اسمه قبْل انخراطه في سلك الرّهبنة؛ التحقَ بالمقاومة الفرنسية عند احتلال النازية لفرنسا.. وُلِدَ الأب [Pierre]، وهذا هو الاسم الذي عُرِفَ به طيلة حياته المليئة بالأمجاد سنة (1912)، ومن بين إنجازاته في المقاومة الفرنسية، هو تحريرُه بعملية جرّيئة لـِ(جاك ديغول) شقيق الجنيرال (ديغول) من الأسْر، ممّا يبرز جرأتَه، وشجاعتَه، وقد سجنه النازيون لأول مرة سنة (1944)، لكنه تمكّن من الفرار؛ ولـمّا كانت (الغيستابو) تبحث عنه، لجأ إلى الإقامة في (الجزائر)، وهناك التقى بالجنيرال (ديغول) زعيم (فرنسا الحرة) لأول مرة عام (1943)؛ وبعد الحرب العالمية الثانية، جرى انتخابُه نائبًا برلمانيًا بيْن عامي (1945 ــ 1951)؛ وفي عام (1947) أسّس جمعية شُكّلَتْ مجتمعًا من الفقراء، وراح يبني البيوتَ المؤقّتة للمشرّدين في انتظار أن تبني لهم الحكومةُ بيوتًا مناسبة وقارّة..
ذاع صيتُ [الأب بيير] في فرنسا، وطارت شهرتُه لتملأَ الآفاق عندما وجّه في شتاء (1954) نداءً عبْر الإذاعة، دعا فيه إلى ما أسماه [انتفاضة المروءة] لصالح مَن لا سقْفَ له، ولقي نداؤُه استجابةً منقطعة النظير، وتمثّلتْ في حملة شعبية واسعة للتضامن مع [L - S - A] ومعناها [Les sans abris] وهم المشرّدون الذين لا مساكنَ لهم؛ وبعد أسابيع، وبفضل نضال [الأب بيير] أقرّ البرلمانُ برنامجًا لتشييد عشرات الآلاف من المساكن للفقراء والمشرّدين، لأنّ هذه السنة، يعني (1954) عرفت وفاةَ العديد من الأشخاص بدون مأوى، بسبب موجة البرد القارس، وهي السَّنة التي عرفتْ نداءَه الشهير كما أسلفنا.. وبعد (40) سنة على ذلك النداء، عاد [الأب بيير] مرة أخرى إلى واجهة الأحداث مندّدًا بما أسماه [قُرْحة الفقر]، ووجّه نداءَه الثاني من أجل مساعدة المشرّدين، وقد قُدِّرَ عددُهم بما يزيد عن (400 ألف) مشرّد، وعرف هذا النداءُ الثاني عبْر الإذاعة استجابةً واسعةً، وهكذا عُرِفَ [الأب بيير] بدفاعه المستميت عن حقّ الجميع في المسكن..
مُنِحَ وسامَ (فارس جوقة الشرف) سنة [1991]، لكنّه رفض حمْلَه، احتجاجًا على تباطُؤ الحكومة آنذاك في توزيع مساكن شاغرة على المشرّدين، ولم يحملْ هذا الوسامَ إلاّ سنة [1992] بعدما استجابتِ الحكومةُ لمطلبه.. وفي سنة [2001] أنعم عليه رئيسُ الجمهورية الفرنسية [جاك شيراك] بوسام (الشّرف) برتبة ضابط أعلى، لكنّ [الأب بيير] رفض تقلّد الوسام، احتجاجا على تأخّر الحكومة في تنفيذ مشاريع الإسكان للفقراء، كما أصدر بيانًا سنة [2004] ضدّ الفقر بعد نصف قرن على ندائه الأول، ولقي نداؤُه التقديرَ في بلد يعيش فيه (خمسة ملايين) معوز، بينهم (مليون) طفل؛ ومن الطّريف أنّ [الأب بيير] أسكنَ الفقراءَ في (ڤيلاّ) شاغرة كانت في ملكية [جاك شيراك]، ولم تتمكّنِ الشرطةُ من إخلاء (الڤيلاّ) حيث اصطدمتْ بـ(الأب بيير)، ولم تفعلْ شيئًا؛ فاستدعى [شيراك] (الأب بيير) إلى قصر (الإيليزي) وأراهُ وثائقَ تثْبت ملكيتَه للمسكن عن أجداده، وتعهّد له أن يجدَ مساكنَ مؤقّتة للمشردين، في انتظار بناء مساكنَ قارة لهم، عندها فقط أخلى [الأب بيير] (ڤيلّةَ) [شيراك].. فما أَحْوجَنا لبرلماني أو لعالِم دين مثْل [الأب بيير] في زمن الفقر، والظلم الاجتماعي..
لكنّ معركة الرجل مع الظلم والنفاق قادتْه إلى مأزقٍ كاد أن يودي به، ويصفّيه معنويًا.. ففي سنة [1996] أدان [إسرائيل] ككيان عنصري وغاصب؛ وذهب إلى القول إنّ من كانوا يعانون الظلمَ بالأمس، أصبحوا قتلةً وجلاّدين مثْل النازيين؛ كما أدان اللُّوبي الصّهيوني في فرنسا، في صحيفة إيطالية، وفعلاً اعتزل العمل في أحد الأدْيِرة الإيطالية ثم صرّح لصحيفة [لاكروا] بأنّه يترك لله وحده أن يحاسبَ الناس على النوايا.. لم تتمكّنِ الصهيونية من تدمير [الأب بيير]، ولم تؤثِّرِ الحملةُ في شعبيته، حيث عاد بقوة إلى العمل الإنساني، وصرّح لصحيفة [ليبراسيون] بأنّه امتلك الشجاعة للكلام في موضوع يُعْتبر من المحرّمات.. ألّف [الأب بيير] عدّة كتب، من أهمّها كتابُه [إلاهي لماذا؟]، وكتابه [مذكّرات مؤْمِن].. لم يكنْ يمارس التبشير، بل كان عَلْمانيًا يعني لا يهتمّ بعقيدة المشرَّد؛ وفي يوم [22 يناير 2007] مات (الأب بيير)، وقد اعتُبر هبةً من السماء للفقراء؛ مات تاركًا وراءه المئات من خيام المشرّدين منصوبة وسط زَمْهرير الشتاء تحت جسور (باريس).. مات [الأب بيير] الذي ظلّ ثوريًا وشجاعًا حتى نهاية حياته المليئة بالأمجاد.. رحم الله [الأب بيِير]!