صُدم البعض وصُعق البعض الآخر بالشعارات التي رفعها تلاميذ تظاهروا في الشارع العام ضدّ قرار الحكومة المتعلق بالتوقيت، حيث أقدم بعضهم على إحراق العلم الوطني كما قام آخرون بشتم رئيس الحكومة بشكل مقذع وبعبارات نابية ومخلة بالحياء. طبعا كالعادة لم تجد السلطة من رد فعل سوى القمع والعنف، وهي تعتقد بأن ذلك هو الحل الوحيد لما تواجهه من مشاكل جديدة وغير مسبوقة.
الذين صدمهم سلوك التلاميذ لم يتابعوا بلا شك التدهور الكبير للنظام التربوي المغربي، الذي ـ ويا للأسف ـ لم يصدمهم من قبل، كما لم ينتبهوا إلى التغيرات الانقلابية التي طالت الأسرة المغربية، والعلاقات العامة في الشارع، وما حدث من تطور في علاقة الدولة بالمواطنين، إضافة إلى التطور السريع والمذهل لوسائل الإتصال والتواصل التي أصبحت بين يدي جميع الشباب، بل وفي متناول الأطفال الصغار، دون أية مواكبة تربوية معقلنة.
هذه العوامل جميعها كانت بحاجة إلى تتبع حثيث من المسؤولين، الذين انشغلوا بالسياسة الصغرى التي يمثلها الصراع على الكراسي، والتوازنات المالية والسياسية، والتوافقات الهشة، على حساب التوازنات الحقيقية التي تتعلق بالإنسان قبل كل شيء.
لم يفهم السياسيون والحكام بأن التراجع المخيف للشعور الوطني لدى الشباب لا يعود إلى عصيانهم وشغبهم وخروجهم عن القانون، بل إلى تفكك علاقة الدولة بمواطنيها الذين ما زالت تعتبرهم رعايا يساقون كالأنعام، بينما بلغوا من الرشد درجة أصبح من غير الممكن فيها التعامل معهم بمنطق العصا. فصورة الدولة والشعور بالانتماء إليها مقرون بشكل آلي وعضوي بموقع الفرد ومدى تمتعه بحقوقه وشعوره بالأمان.
إن أخلاق العبيد التي تعني المزيد من الخضوع كلما تزايد القمع والقهر لم تعد هي أخلاق الأجيال الجديدة، ولا الأجيال القادمة وبالتأكيد، وعلى السلطة أن تعيد ترتيب أوراقها في مراجعة جذرية لأسلوبها في تدبير المرحلة.
لم يفهم السياسيون كذلك بأن ثقافة السبّ والشتم واستعمال الألفاظ الغليظة بدون أي وازع أخلاقي، إنما هي نتاج مسلسل طويل من التفقير المعنوي والقيمي للمدرسة المغربية، عبر التركيز على المقاربات التقنوية، والتمسك باسم الخصوصية، بضرورة التدين الإيديولوجي السطحي والغريب عن القيم الإنسانية، وتلقين الخرافات والأوهام و”الثوابت” اللامنطقية، التي سرعان ما يكتشف الأطفال ـ بله الكبار ـ تهافتها وهم يبحرون يوميا في الفضاء الأزرق.
إن التفكك الأسري واضطراب العلاقات الاجتماعية الذي يعكسه سلوك المراهقين نابع كذلك من المقاربة الغبية التي ما زالت تؤطر الإعلام المغربي، ما يخلق هجرة ذهنية جماعية نحو المجال الافتراضي المليء بالمخاطر، لقد أقدمت السلطة في يوم ما على تغريم إذاعة خاصة بسبب فتحها مجال النقاش بين الشباب في موضوع الجنس، ولم تعلم بأن تكميم الأفواه ورفض الحوار وضرب حرية التعبير عما يخالج النفوس يؤدي حتما إلى تشوهات وعاهات اجتماعية تتمظهر في سلوكات العنف واللاعقلانية.
إن عقلية الوصاية التقليدية التي تستعمل الدين وأساليب الردع والزجر، أو التخويف والترهيب، لم تعد ذات مفعول حقيقي في السياق الراهن، بل إنها أصبحت مصدر كوارث حقيقية، إن المطلوب اليوم هو عكس ما تم حتى الآن: فتح حوار جدّي حول كل خبايانا التي لا نريد البتّ فيها إما باسم النظام العام أو باسم التقاليد والمحافظة الكاذبة، ومنح الكلمة للشباب ليقولوا ما يشعرون به بدون خوف أو وجل، وإتاحة الفرصة للخبراء في الفلسفة وعلم النفس التربوي والسوسيولوجيا والأنثروبولوجيا والتاريخ والآداب والفنون، ليقولوا كلمتهم كذلك ويقدموا تحاليلهم الموضوعية ثم مقترحاتهم العملية، كل هذا لا يمكن أن ينجح بدون انفراج ديمقراطي حقيقي على المستوى السياسي ، وبدون إرادة سياسية لتغيير مفهوم السلطة وعلاقة الدولة بالمواطن، أما أن نبذل قصارى جهودنا لكي نحافظ على الأوضاع كما هي عليه، فلننتظر الأسوأ.
أحمد عصيد