كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم، يرى ببصيرته عبْر الغيب القصِي والمجهول البعيد كلّ المتاعب التي سيتحمّلها [أبو ذرّ] بسبب صدقه، وصلابته، فكان يأمره دائما أن يجعل الأناةَ والصبر نهجَه وسبيله.. ألقى الرسول عليه يومًا هذا السؤال: [يا أبا ذرّ، كيف أنت إذا أدركتَ أمراءَ يستأثرون بالفيء؟]، فأجاب قائلا: [إذًا والذي بعثك بالحق، لأضربنّ بسيفي]؛ فقال له النبيُ الكريم: [أفلا أدلّكَ على خير من ذلك؛ اِصْبِرْ حتى تلقاني]؛ فيوم القيامة لن يوجد مكانٌ شاغرٌ بجانب (أبي ذرٍّ)، لأنّ حسناتِه تحيط به، كيف ذلك؟ في إحدى الغزوات، تخلّف (أبو ذرٍّ)، لأن بغْلتَه تعبتْ، وغاصتْ قوائمُها في الرّمال، فأخذ (أبو ذرّ) ما يحتاجه من على ظهرها، وتابع المسير على الأقدام.. قال بعضهم: [لقد تخلّف أبو ذرٍّ يا رسولَ الله، فنظر النبيُ من حوله، فلم يجدْ أبا ذرٍّ، فحزن رسولُ الله صلّى الله عليه وسلم، وبينما هو كذلك، برز رجُلٌ يقترب في الأفق، وهو يغدُّ السيرَ؛ فقال النبي الكريمُ: [كُنْ أبا ذَرٍّ]، فإذا به [أبو ذرّ] قد لحق برسول الله.. قال الرسولُ عليه السلام: [يا أبا ذرٍّ، تمشي وحدك، وتموت وحدك، وتُبْعَثُ وحدك]؛ قالوا: [يا رسول الله، أن يمشي وحده، فقد رأيناه؛ ويموت وحده، هذا ممكن الحدوث، ولكنْ كيف يبعث وحده؟]؛ أجاب الرسولُ عليه السلام بأنّه يوم القيامة سيكون (أبو ذرّ) وحده محاطًا بحسناته فقط..
لقد مات [أبو ذرٍّ] وحده، وهو منفي في صحراء (الرَّبدَة) وصدق النبي الكريم.. لكن، تُرى، لماذا سأل رسولُ الله عن أمراءَ سيستأثرون بالفيْءِ؟ تلك قضية [أبي ذرٍّ] التي سيهبها حياتَه، وتلك مشكلتُه مع المجتمع، ومع حكّامه؛ لكنْ ليَهْنأْ [أبو ذرٍّ] الآن ما دام الفاروقُ [عمرُ بن الخطاب] رضي الله عنه هو أمير المؤمنين، وما دام [أبو ذرٍّ] لا يضايق في حياته، مثلما ضايقته السلطةُ في ما بعد، وهي تحتكر الثروةَ، وتستغلُّ الفقراءَ، فليهنأْ ضميرُ [أبي ذرٍّ]، لأنّ [عُمر] بمراقبته الصارمة للسلطة، وتوزيعه العادل للثروة أتاح الطمأنينةَ والرّضى، لأنّ [عُمر] ما كان يغضُّ الطرْفَ أو يصمتَ لو رأى مخالفةً هنا أو هناك؛ ولـمّا مات تركَ وراءهُ فراغًا هائلاً، فرأى [أبو ذرٍّ] الحياةَ بزُخْرفها الباطل، وغرورها الضّاري، فبدأتْ متاعبُه.. فخرج بصدقه هذا إلى الحاكمين، وإلى الأغنياء الذين أصبحوا يشكّلون بركونهم إلى الدنيا خطرًا على الأمة ثم صرخ قائلاً: [عجبتُ لمن لا يجد القوتَ في بيته، كيف لا يخرجُ على الناس شاهرًا سيفَه؟]..
زار ذات يوم [معاويةَ] في قصره بالشام، واصطحب معه خمسة فقراء، حُفاة، عراة، تظهر ضلوعُهم من أجسادهم لشدّة الفقر والجوع.. صاح الحاجبُ: [أبو ذرٍّ في الباب يا أميرَ المؤمنين]؛ فهرع [معاويةُ] إلى الباب قائلاً: [أهلاً بأخي صاحب رسول الله!]؛ فأجاب [أبو ذرٍّ]: [لستُ بأخيك، اُنظرْ إلى هؤلاء الفقراء بجانبي، وانظرْ إلى هؤلاء السِّمان الذين بجانبك، ألا تجد في كتاب الله هذه الآية؟] ثم تلا: [والّذين يكْنزون الذهبَ والفضةَ ولا ينفقونها في سبيل الله، فبشّرْهم بعذاب أليم..]؛ ثم تابع: [يوم يُحْمَى عليها نارُ جهنّم، فتُكْوى بها جِباهُهم، وجنوبُهم، وظهورهم، هذا ما كنزتم لأنفسكم، فذوقوا ما كنتم تكنزون]؛ قاطعه [معاويةُ] قائلا: [لقد نزلتْ هذه الآيةُ في أهل الكتاب]؛ فيصيح [أبو ذرٍّ]: [كلاّ والله؛ بل نزلتْ لنا ولهم].. فيستشعر [معاويةُ] الخطرَ، ويحسر (أبو ذرٍّ) طرفَ ردائه عن ساقيْه مرة أخرى، ويسافر إلى المدينة تاركًا (الشام) في يوم لم تشهدْ (دمشقُ) مثْله يومًا من أيام الحفاوة والوداع؛ وداعٌ يُذكِّر بذلك الذي خصّصه [عليٌّ، والحسَنُ، والحُسيْن] (لأبي ذرٍّ) وهو يُنْفى إلى صحراء (الرَّبدة) قائلا: [لا حاجةَ لي في دنياكم]..
لقي ذات يوم [أبا موسى الأشعري] ففتح ذراعيْه فرحًا بلقائه، لكنّ (أبا ذَرٍّ) دفعه وهو يقول: [لستُ بأخيك، إنّما كنتُ أخاكَ قبْل أن تصبح واليًا وأميرًا..]؛ كذلك لقيه [أبو هُرَيرةَ]، يوما واحتضنه مرحّبًا، ولكنّ [أبا ذرٍّ] نحّاه عنه بيده وقال له: [إليكَ عنّي.. ألستَ الذي وُليتَ الإمارةَ، فتطاولتَ في البنيان، واتّخذتَ لكَ ماشيةً وزرعًا؟] فصار [أبو هريرة] يُبرِّئُ نفسَه.. وبعد عشرين سنة على [يمشي وحده؛ ويموت وحده؛ ويُبْعَثُ وحده] حضر الوفاةُ [أبا ذرٍّ] وهو في الصحراء؛ فكانت زوجتُه تقول له وهي تبكي: [ليس لديَّ قماشٌ أُكفِنكَ به] قال لها [أبو ذرٍّ]: [اِهْمدِي يا امرأة، لقد سمعتُ رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول بأنّي سأموتُ وحيدا، وسيُكفِّنُني قومٌ يمرّون بجثّتي، فهل يكْذب رسولُ الله؟ فأسلم الرّوح إلى باريها.. وفجأةً انبثقتْ قافلةٌ من الأفُق، فأرادتْ زوجتُه أن توقظَه لتزفَّ له الخبر، وصاحت: [أبا ذرّ، أبا ذرّ، قافلة!]؛ لكنّ [أبا ذرٍّ] لم يردّ عليها، لأنه رحل من ضيْق الدنيا إلى سعة الآخرة؛ ولـمّا وصلتِ القافلةُ كان على رأسها [عبد الله بن مسعود]، فصاح، قائلاً: [صدق رسولُ الله: تمشي وحدك؛ وتموت وحدك؛ وتُبْعثُ وحدك يا أبا ذرٍّ] فكفّنوه، ودفنوه.. وهكذا بُعِثَ [أبو ذرٍّ] في التاريخ وحْده، ولسوف يُبْعَثُ عند الله وحيدًا كذلك؛ لأنّ زحامَ فضائله المتعدِّدة، ما تركتْ بجانبه مكاًنا لأحد سواه.. وهذا الزعيم الهندي [غاندي]، كان يردّد شعار [أبي ذرٍّ] ويقول لشعبه، وحكّامه، وأغنيائه، ما كان يقوله [أبو ذرٍّّ]: [ما زاد عن الحاجة فهو سرقة]؛ سألوه يومًا عن حاله، فأجاب: [لي بغلةٌ أركبها، ومعزةٌ أحلُبها، وخيمةٌ أسكنها، أهناك نعمةٌ أفضل من هذه التي أنا فيها؟] رضي الله عنه وأرضاه..